تبييض الأموال

عبيدلي العبيدلي

لم يعد في وسع الاقتصاد الأمريكي أن يستر عورات مثالبه. هذا ما كشف عنه تقرير صدر مؤخرا عن وزارة الخزانة الأمريكية جاء فيه "أن مدخول عمليات الاحتيال وتبييض الأموال في الولايات المتحدة يبلغ سنويًا 300 مليار دولار، نصفها يتأتى من عمليات الاحتيال على شركات التأمين الصحي ومصلحة الضرائب". ويمضي التقرير مضطرا إلى افشاء المزيد من فضائح ذلك الاقتصاد الذي يصر على التشبث بموقعه في الاقتصاد العالمي، بعد أن بات مهددا من الاقتصادات الناشئة الأخرى، وأبرزها الاقتصاد الصيني والهندي.

فكما جاء في التقرير باتت "عمليات الاحتيال على الحكومة الفيدرالية، ولا سيما عبر التصريحات الضريبية الكاذبة، اضافة إلى التصريحات الكاذبة التي يقدمها لشركات التأمين الصحي المواطنون الأكثر فقرًا والأكبر سنًا هي أكبر بمرتين على الأقل في مدخولها من الأرباح التي يحققها سوق تجارة المخدرات في الولايات المتحدة".

لكن دراسات اقتصادية متخصصة، من بينها تلك التي أعدها أحد الخبراء في مكافحة غسيل الأموال رئيس الاتحاد العربي لمكافحة الجرائم الدولية وغسيل الأموال ناجى حمادة، تؤكد على أن جرائم تبيض الأموال لم تعد من سمات الاقتصاد الأمريكي فحسب، حيث بلغ "حجم جرائم غسل الأموال على مستوى العالم بلغ تريليون دولار منها 500 إلى 700 مليار ناتجة عن تجارة المخدرات سنوياً، مشيراً إلى أن تلك الأرقام ربما لا تعكس المقدار الحقيقي لحجم غسل الأموال أو الأموال الموجهة لتمويل الإرهاب حول العالم، كما لا توجد إحصاءات أو أرقام تظهر حجم غسل الأموال في الدول العربية."

أما الأمين العام للجنة الإعلام والتوعية المصرفية بالمصارف السعودية طلعت حافظ، فيقدر في محاضرته "غسل الأموال وسبل الوقاية"، حجم الأموال المغسولة "في صورها المتعددة التي باتت تؤرق عدداً من الاقتصادات في العالم، بـ 300 بليون دولار سنوياً، وتشكل بحسب تقديرات البنك الدولي ما بين 2.5 و5 في المئة من حجم إجمالي الناتج المحلي العالمي".

ضاعفت من خطورة ظاهرة غسيل الأموال، التي باتت، كما يقول عنها الخبير المصرفي الدولي رشاد عبده قناة مهمة من قنوات "تمويل الإرهاب"، ما باتت تشكله من "تهديد للاستثمار والاستقرار في النظام السياسي والاقتصادي لأي دولة"، منوها في هذا الاتجاه " أن التداعيات السلبية لجرائم غسيل الأموال وتمويل الإرهاب لا تقتصر فقط علي الجهاز المصرفي والقطاع المالي بل تمتد لتشمل كل القطاعات الاقتصادية ويزيد من خطورة تلك العمليات أنها تتم خارج إطار الإحصاءات الاقتصادية المعتادة وتنتشر في الدول التي تفتقر إلى القوانين والتشريعات والمؤسسات اللازمة لمكافحتها".

وترصد مقالة نشرها موقع "منتدى كلية الحقوق" بجامعة المنصورة الأثار السلبية التي تفرزها عمليات غسيل الأموال على اقتصادات البلدان التي تنتعش فيها تلك العمليات، ومن بينها "التشوه في نمط الإنفاق والاستهلاك، مما يؤدي إلى نقص المدخرات اللازمة للاستثمار وبالتالي حرمان النشاطات الاقتصادية المهمة من الاستثمار النافع للمجتمع،(مضيفة) إن نجاح خروج الأموال المغسولة من الاقتصاد القومي للدول يؤدي إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات وحدوث أزمة سيولة في النقد الأجنبي مما يهدد احتياطيات الدولة لدى البنك المركزي من العملات المدخرة".

أما على الصعيد الاجتماعي، فيؤدي غسيل الأموال، كم تقول المقالة ذاتها "إلى حدوث خلل في توزيع الدخل القومي وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء (محدودي الدخل في المجتمع)، مما يؤدي بدوره إلى عدم وجود استقرار اجتماعي مع إمكانية حدوث صراع طبقي وأعمال عنف".

ولم تنجو الدول العربية من هذه الظاهرة الخطيرة، هذا ما كشف عنه أحد الخبراء في مكافحة غسيل الأموال عبد الفتاح سليمان حين يؤكد على أن " نصيب مصر منها لا يقل عن 5 مليارات دولار"، مضيفا بأن "أهم القطاعات التي يتم غسيل الأموال وتبييض الأرصدة بها البورصات الجديدة في الدول الناشئة التي تقل فيها الشفافية وتكون رقابة الدولة عليها ضعيفة".

حتى الدول الخليجية لم تستطع أن تذود عن حياضها في وجه الهجمات ذات العلاقة بهذه الجريمة. هذا ما اعترف به طلعت حافظ، في مقابلة خص بها صحيفة "الحياة" اللندنية، حيث قدر "حجم القضايا التي اشتبه فيها بأنها عمليات غسل أموال في المملكة خلال الفترة من 2004 إلى 2008، بــ 550 قضية". ورغم أنه لا يوجد، كما تقول دراسة "ظاهرة غسيل الأموال وآثارها الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الدولي"، من إعداد الباحث الأردني عبد الله عزت بركات، المنشورة في "مجلة اقتصاديات شمال إفريقيا"، "اتفاق عام بين الدول حول مفهوم غسيل الأموال"، لكن هناك العديد من التعريفات التي تتفاوت في صياغاتها، لكنه تجمع في جوهرها، على أن عمليات غسيل الأموال هي، في صلبها، "محاولة تغيير صفة الأموال التي تم الحصول عليها بطريقة غير ي مشروعة لتظهر كما لو كانت قد تولدت من مصدر مشروع. وتؤدى عملية غسيل الأموال إلى إخفاء مصدر الأموال الناتجة عن نشاطات غير مشروعة وإعطائها صفة الشرعية".

ورغم أن المصطلح قد نشأ، كما تجمع العديد من المصادر، في العام 1931، "لدى محاكمة ألفونس كابوني، الشهير باسم آل كابوني"، لكن اصول اقتباسه كمفهوم جديد بدأ كما يقول تقرير، ينقله الباحث بلاسم جميل خلف، من كلية الادارة والاقتصاد بجامعة بغداد عند انفجار "فضيحة واترغيت في الولايات المتحدة في العام 1973، (مضيفا بأن) أول مرة ظهر فيها المصطلح في الإطار القضائي والنظامي كان في العام 1982، ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا المفهوم مقبولا وانتشر استخدامه في العالم كله".

ولعل نظرة متمعنة فيما يدور في العالم من تمويل باهظ الثمن لما يدور من معارك مسلحة، وعلى نطاق واسع في المنطقة العربية، يثير أكثر من علامة استفهام كبيرة حول العلاقة بين هذه الحروب، وبين جرائم تبييض الأموال، وعلى وجه التحديد تلك الأموال المتولدة من بيع النفط المهرب إلى أسواق غير معروفة في الصناعة النفطية.

تعليق عبر الفيس بوك