مشروع مارشال.. البلسم الشافي

فهمي الكتوت

كلما برزت كارثة اقتصادية اجتماعية ناجمة عن حروب إقليمية تدميرية، أو أزمات اقتصادية حادة، يجري الدعوة لتبني مشروع مارشال؛ فقد وعدت بعض دول الخليج العربي مصر "بمشروع مارشال" في حال فوز الرئيس السيسي في الانتخابات، لتمويل مشاريع استثمارية ضخمة تصل قيمتها نحو 160 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد المصري وتحفيز الاستثمار! نجح السيسي ولم نر سوى خيبات الأمل، ومحاولات إلحاق مصر في ذيل تحالف بائس، أقل ما يقال عنه، بأنه مشروع استعماري يستهدف دولة عربية، بدلا من مد يد العون لها، ومساعدتها في حل مشاكلها الداخلية بالطرق السلمية.

كما طالب عبد ربه منصور هادي القادة العرب "بمشروع مارشال" لمساعدة اليمن لعودة الحياة إلى طبيعتها بعد انتهاء الحرب، يتعهد بإعادة بناء اليمن بعد تدميرها! أين وجه الاختلاف بين طرح هادي والسياسة الأمريكية في العراق، تدمير البنية التحتية وتفكيك الدولة، ودعوة الشركات الأمريكية لإعادة بنائها أليس كذلك.

وفي لبنان؛ طالب الرئيس اللبناني الأسبق أمين جميل بمشروع "مارشال عربي" لإعادة إعمار الاقتصاد العربي الذي دمرته "ماكينة القتل المتوحشة" وحوّلت الدول العربية إلى مستنقعات موت متنقلة. وارتأى عدد من رجال الأعمال والسياسيين والاقتصاديين اللبنانيين والعرب، "اقتباس" تجربة النهوض بقارة أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، جاء ذلك في ورشة بحثية تناولت "مشروع مارشال عربي" وفقا لما أوردته جريدة الحياة، و اعتبر مصطفى العاني الذي ناب عن رئيس مركز "الخليج للأبحاث" في الندوة أنّ الدور الأمريكي "المتخاذل" في المنطقة أوصلها إلى ما هي عليه، مشيراً إلى أنّ جل اهتمام الرئيس الأمريكي باراك أوباما إنهاء ولايته من دون الدخول في حروب، والتملص من المواجهة".

من سخريات القدر أن بعض الرموز السياسية في الوطن العربي تدعو أمريكا إلى التدخل عسكريا في المنطقة وتعتبر عدم تدخلها تخاذلا!! في حين ناضلت الشعوب العربية منذ أواسط القرن الماضي ضد التدخل الأجنبي وقدمت ملايين الشهداء دفاعا عن الاستقلال والجلاء.. ودفن المشروع الأمريكي، والمشاريع الاستعمارية والإمبريالية في المنطقة العربية.

أمّا مشروع مارشال الذي يحاول بعض الساسة العرب تصويره بأنّه البلسم الشافي لحل المشاكل التي تواجه الوطن العربي، فهو لا يخلو من الأطماع الأمريكية للهيمنة على العالم، فمن المعروف أن أمريكا أطلقت مشروعها في العام 1947، لإعادة بناء أوروبا المدمرة في الحرب العالمية الثانية، ولإنعاش الاقتصاد الأوروبي، ومواجهة حالة الكساد الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، لاحتواء النظام الرأسمالي وحمايته من الانهيار، خاصة في فرنسا وإيطاليا. فالمصانع الأمريكية لم تتعرض للتدمير في الحرب العالمية الثانية، بحكم موقعها الجغرافي، كما تعرض السوفيت والحلفاء، ليس هذا فحسب بل نشطت الصناعات الأمريكية والتجارة الامريكية إبّان الحرب لسد احتياجات الحلفاء من السلع والتجهيزات المدنية والعسكرية ما أسهم في تطوير الصناعات الأمريكية والاستحواذ على معظم احتياطيات العالم من الذهب.

لم يعتبر مشروع مارشال مجرد مساعدات سخية للحلفاء، بقدر ما هو مشروع استثماري من حيث المبدأ، عوضًا عن كونه استهدافا سياسيًا لاحتواء أوروبا، ومنع وقوعها تحت تأثير التوجه الاشتراكي، خاصة وأنّ الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية وأحزابها السياسية لعبت دورًا بارزًا في مقاومة النازيين، وكان لها حضور سياسي قوي، كما حقق الجيش السوفييتي انتصارات عسكرية هامة على النازية، بدخول برلين وعدد من العواصم الأوروبية، التي شكّلت دول المعسكر الاشتراكي لاحقًا. فمشروع مارشال هو جزء من المشروع الأمريكي في الهيمنة على الاقتصاد العالمي.

لقد صممت الولايات المتحدة الأمريكية خططها وسياساتها الخارجية منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، بخطة مركبة ومزدوجة للسيطرة على العالم، من خلال المهام التي أوكلتها للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي منذ تأسيسهما، وبتعزيز الترسانة العسكرية، وإقامة المعاهدات والأحلاف العسكرية وكان للوطن العربي نصيب في مشروعها الإمبريالي، بمحاولة جر البلدان العربية في الدخول بالمعاهدات والأحلاف، أما الخطوة الأكثر استفزازا فتمثلت بمحاولة تشكيل فرع لاتحاد شمال الأطلسي للوطن العربي في أوائل خمسينيات القرن الماضي باسم قيادة الشرق الأوسط، أو الدفاع عن الشرق الأوسط، وهو مشروع استعماري، تضمن إقامة الصلح بين الحكومات العربية و"إسرائيل" وبعد فشله جاء مشروع آيزنهاور لملء الفراغ. الذي أحدثه انهيار الاستعمار الكولونيالي، واستهدف الهيمنة على المنطقة العربية، والتصدي لحركات التحرر العربي، وإجهاض التوجهات الوحدوية العربية، التي أصبحت إحدى الشعارات الرئيسية الأكثر اجتذابا للجماهير العربية إلى جانب شعارات الاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية، كرد على نكبة فلسطين والمشاريع الاستعمارية، وتشديد القبضة الاستعمارية الأمريكية على المنطقة، بإنشاء الاحلاف العسكرية، وتشديد الحصار على الاتحاد السوفييتي.

ففي الخامس من كانون ثاني 1957 وجّه الرئيس الأمريكي ايزنهاور رسالة للكونغرس ركز فيها على أهمية سد الفراغ الذي نتج عن انسحاب بريطانيا من الشرق الأوسط، وحدد الاستراتيجية الأميركية ما بعد حرب السويس تحت ذريعة احتواء التمدد السوفييتي باتجاه المنطقة. مطالبًا الكونغرس تنفيذ هذه السياسة وهي: تفويض الرئيس سلطة استخدام القوة العسكرية في الحالات التي يراها ضرورية لضمان السلامة الإقليمية. وتفويض الحكومة الأمريكية في وضع برامج المساعدة العسكرية لأي دولة أو مجموعة من دول المنطقة إذا ما أبدت استعدادها لذلك، وكذلك تفويضها في تقديم العون الاقتصادي، باستخدام سياسة العصا والجزرة لتركيع الشعوب العربية وفرض شروط التبعية.

لقد رفضت الشعوب العربية السياسات الأمريكية، التي كانت وما زالت تستهدف تصفية القضية الفلسطينية وتوطيناللاجئين الفلسطينيين وإقامة صلح مع العدو الصهيوني ونهب الثروات العربية؛ وما يجري في هذه الأيام ليس إلا محاولة لفرض ما فشلت به الولايات المتحدة الأمريكية في أواسط القرن الماضي.

تعليق عبر الفيس بوك