إعلام العين الواحدة المضلل

رحاب أبو هوشر

تتقدم الصورة الثابتة أو المتحركة، لتكون أبرز الأدوات الإعلامية في إدارة الصراعات العربية الراهنة. الصورة المنتجة من قبل إعلام الأنظمة، أو تلك التي تنتجها جماعات وأفراد مؤخرًا، بفضل التقنيات الرقمية، المبثوثة عبر الشاشات التلفزيونية، وتلك المنتشرة على المواقع الإلكترونية، وخصوصًا موقع "يوتيوب" ومواقع التواصل الاجتماعي، لا تعد ولا تحصى بسبب وفرة وسهولة صناعتها من قبل كل من يريد، بالتوازي مع إنتاج الخطاب والموقف.

يوضع الشريط المصور على أحد المواقع الإلكترونية، ويتناقله المستخدمون للشبكة العنكبوتية، ليتخذ من مضمونه المنحازون لوجهة نظر "صناع الشريط" دليلا وحجة غير قابلة للنقض، في الدفاع عن موقفهم، سواء كانوا يمثلون نظاما أو جماعة تخوض صراعها الفئوي، والتأكيد على أحقية ومشروعية ذلك الموقف، ولاستخدامه دليل اتهام إضافي يكرس الطرف الآخر معاديا ومعتديا. في الوضع العربي الحالي، لم يعد ضروريا تحديد فحوى ذلك الشريط أو هوية صناعه، فعلى الجهة المقابلة، سيتم تصوير شرائط مصورة نافية لما تروجه الأولى، تدير صراعها بتقديم ما تسعى لتثبيته حقائق، وتبرز ما ترغب بأن يشكل أدلة دامغة بذات الدوافع السالف ذكرها.

صراعات ساحتها الإعلام تستهدف التأثير الشعبي، واستمالة الرأي العام حينا وتشكيله معظم الأحيان، وإعلام يرتكز على صناعة الصورة وتصنيع ما عليها قوله للناس، وصورة لم يعد بإمكان أحد الجزم بصدقيتها وحقيقيتها، لأن كلا من طرفي الصراع، يعتبر الأسلحة كافة مشروعة في حربه، وإن كان السلاح ممارسة التضليل!

في قراءة سطحية تشوبها الخفة والرعونة، ينتشر اليوم اعتقاد وشعور، بأنّ النجاحات التي حققتها بعض وسائل الإعلام العربية، في السنوات الأخيرة، يمكن لها أن تكون بديلا للسياسة، بل ثمة من يتوهم أنها أصبحت السياسة نفسها. والمشكلة الأساسية أن تضخم النجاح، في منطقة مليئة بكوارث الفشل، وعلى مدى عقود، منح أصحابه وفرة مِن أحلام كثيفة. أحلام لا تبدأ بوهم امتلاك السياسة، المهيمنة على الإعلام، القدرة على امتطاء صهوة الرياح، ولا تنتهي بوهم إمكانية تحريك الشعوب والمجاميع، ناهيك عن امتلاك القدرة على الصمت هنا، والصراخ هناك، واعتام عين "الكاميرا" عن مشهد ينتقص من "الحقيقة".

تلك السطحية والخفة، المحمولة على وهم، وجدت طريقها إلى مشاعر وعقول بعض الأفراد، ومن بينهم بعض الأكاديميين والمثقفين والعاملين في حقل السياسة والإعلام، على نحو بدا لكثيرين بأن الفعل والتأثير، في الشؤون العامة، أصبح صناعة سينمائية، أو محض ثيمات بصرية، فصار مِن المألوف، أن نشاهد ونسمع يوميا، أفرادا يتحدثون عما يجري في ليبيا أو اليمن أو سوريا، بطمأنينة إلى موقفهم، باعتبارهم يمتلكون اليقين، تماما كما لو كانوا جزءا فاعلا في ساحة المشهد. ولا يتردد أحدهم، في مهاجمة غيره من الناس، ولومهم وتأنيبهم، لأنهم عاجزون عن قراءة تحليلية متوازنة بناء على ما يرسله الإعلام لهم، وبالتالي لأنهم غير قادرين على الاصطفاف إلى جانب الحق والحقيقة!

والصورة بالفعل يمكن أن تكون خداعة وماكرة، إن لم تحتكم إلى عين "الكاميرا" المفتوحة على عناصر المشهد كلها، فمشهد الحريق الضخم، الذي اندلع وما زال في الشارع العربي، ويملأ فضاء عين "الكاميرا" المحجبة، ليس هو الحقيقة بالضرورة، وليس هو نفس الشارع العربي، الذي تريك إياه عين "الكاميرا"، التي تفتح مداها واسعا، على فضاء ذلك الشارع، لترينا أيضا المتفرجين والمتسكعين والغامضين والمرتزقة والمتآمرين كذلك، الذين يتوارون في بقية شوارع وأزقة وفضاءات الشارع الأخرى.

في هذا الزمن العربي الملتبس، والذي يبدو حتى اليوم وفي أفق الزمن المنظور، مشدودا إلى صخرة سيزيف كقدر لا منجاة منه، ونتيجة لغباء وتعنت أنظمة بوليسية، في هذا المشرق التعيس، ثمة دول لا ترى في الإعلام سوى بوق يصدح بإرادتها العمياء، لتعميم الجهل والتخلف. في زمن كهذا، اختلت الموازين التي تحكم أهلية القيادة السياسية والفكرية والثقافية، وأصبحت الأهلية محكومة بالقدرة على امتلاك وسائل إعلام أكثر انتشارا وأقوى تأثيرا. والأمر لا يتطلب إلا حجز مساحات أثيرية من الهواء، ليتم أيضا استدراج الإعلام المكتوب في ذات الغواية، ومن خلالها، ليتضافر كلا الجهدين، في إغلاق عين "الكاميرا" على كواليس "طبخات" السياسة الدولية والإقليمية، وفتحها فقط على مشهد السطح لصراعات طائفية وفئوية. وبذلك استيقظ وهم محموم يروج بأن هناك إمكانية للتحكم بعقول المتلقين وإرادتهم، بل واستنفار مكامن خوفهم الغريزي في البقاء، من خلال مخادعتهم وتزييف الواقع، وصولا إلى تضليلهم.

بين ركام من المفاهيم والمصطلحات حول الإعلام العربي، التي استهلكتها الطقوس العربية في الاجترار وإنتاج الزبد لزمن طويل مضى، اختفى جذر مفاهيم الانتاج الاعلامي، أما المصداقية والمهنية والشرف المهني، فليس لها في بلادنا إلى اليوم، سوى الانحدار بقوة ذاتية، نحو هاويات مستقرة في قاع تلوح ملامحه لنا، وإن لم نكن نتوقعه في أي يوم مضى.

تعليق عبر الفيس بوك