النشاط الاجتماعي والعمل السياسي

عبيدلي العبيدلي

هناك تساؤلات كثيرة تسيطر على ساحة العمل السياسي العربي اليوم، من بينها: ما هي طبيعة العلاقة بين النشاط الاجتماعي والعمل السياسي؟ وما مدى صحة تغليب قوة سياسية معينة لأنشطتها المجتمعية المحضة على دورها السياسي المتوقع منها؟ وهل يجوز الفصل الواضح الملموس بينهما؟.

هناك من يرفض بشكل مطلق الفصل بينهما، معتبرا أي نشاط يقوم به أي فصيل سياسي، هو في نهاية الأمر شكل من أشكال العمل السياسي، في حين يتشبث رأي آخر بضرورة الفصل بين الإثنين، مؤكدا على أن لكل منهما مساره الخاص المستقل عن الآخر، دون أن ينفي احتمال التقائهما في نقطة معينة في مرحلة معينة من مراحل تلك الأنشطة المختلفة. فتغليب أحدهما على الآخر في فترة معينة لا يعني بتر علاقة التأثير المتبادل بينهما، ومن ثم فمن الخطأ رؤية أحدهما بمعزل عن الآخر. وطالما، كما يقول من يرى حالة الدمج أو التكامل، يهدف كلاهما إلى إجراء إصلاحات في هذا المجال أو ذاك فمن غير الطبيعي الفصل بينهما.

ومن الطبيعي، في هذه المرحلة من مراحل تطور العمل السياسي العربي أن تكون مثل هذه التساؤلات، وربما أخرى غيرها قريبة منها، هي إحدى الإشكالات التي تقتضي البحث والدراسة قبل الوصول إلى نتيجة قاطعة بشأنها، خاصة للرد على من يصر على أن أيّ نشاط إنساني هو في نهاية الأمر مرتبط بالعمل السياسي، بشكل أو بآخر. وينتقي المنتمون إلى هذه المدرسة التي تحول الإنسان إلى ما يشبه الكائن السياسي، مجموعة من الأمثلة التي تدلل على صحة ما تذهب إليه.

فعلى المستوى الاقتصادي، يستحضر أتباع هذه المدرسة مشروع مارشال الذي صممته الولايات المتحدة لدرء ما اعتبرته "الخطر الشيوعي" القادم من موسكو في أعقاب الحرب الكونية الثانية، والذي كان سيجد فيما خلفته الحرب من دمار وفقر وعازة أرضا خصبة لانتشار الأفكار الشيوعية، وترويج الفكر الماركسي. وهو أمر لا تستطيع مواجهته الحكومات التي خرجت لتوها من الحرب، وهي المثقلة بديونها وتبعات الحرب.

حتى الرياضة، يستعين بها رواد تلك المدرسة للتأكيد على صحة ما يذهبون إليه، ويستحضرون هنا مباريات تنس الطاولة التي كانت مفتاح بوابة تحسين العلاقات الأمريكية الصينية المتوترة، والتي كانت الدولتان بحاجة لها لمناهضة النفوذ السوفياتي، سواء في دول أوروبا، أو بعض الدول الآسيوية.

وزير الأوقاف محمد مختار جمعة، له اجتهاد توفيقي في هذا الميدان، حين قال في أحد بياناته، مخاطبا النواب المصريين "إن خدمة الوطن لا تنحصر على من يجلسون تحت قبة البرلمان وحدها دون سواها، مؤكدًا أنه قد يكون هناك وطنيون آخرون أكثر همّة وحماسًا وقدرة وعطاء في خدمة وطنهم، فخدمة الوطن شرف على كل حال وفى كل موضع، (مشددا) على أن مجالات العمل الثقافي والتنويري والاجتماعي والإنتاجي لا تقل أثرًا ولا أهمية عن العمل السياسي بل تزيد، فنحن في حاجة إلى جهد كل عالم وعامل، وفي حاجة أشد أن يكون الناس جميعًا من العاملين المنتجين كل في ميدانه دون حاجة أن يكون المجتمع كله من محترفي السياسة، وإن كان الإلمام منها بطرفٍ أمرًا لا مفر منه".

وقد ألفت كتب تتناول هذه المسألة، على وجه التحديد، من بينها كتاب "الوظيفة الاجتماعية للأحزاب السياسية إحدى مسارات تفعيل العمل السياسي وتدعيم حقوق الإنسان". من تأليف مدحت أبو النصر.

رئيس لجنة الهوية الجزائرية بالمجلس العلمي "جيل جديد" حاج عيسى كوزي، يدلي بدلوه في هذا الحوار، لكنه يخالف بشدة ووضوح من يحاول تحويل أنشطة الإنسان كافة إلى عمل سياسي، حيث نجده يصر على أنه "إذا كان العمل الاجتماعي في إطار الحملات التطوعية الخيرية يعبر عن مدى وعي المواطن بدوره في تحسين الأوضاع فإن تأثير هذه المبادرات يبقى محدودا مقارنة بالعمل السياسي الذي يحدد الخطوط العريضة للنظام الاجتماعي من جهة، وكذا إمكانية اللجوء إلى القوة العمومية إن اقتضى الأمر بهدف رد المظالم والمساعدة في إطار عقد اجتماعي وقانون فوق الجميع من جهة أخرى، وليس بحسب أهواء المحسنين أعطوا من أموالهم أم منعوا .(ثم يضيف) العمل الاجتماعي يبقى حبيس مبادرات فردية قد تكون وقد لا تكون، بينما العمل السياسي هو عمل اجتماعي بقوة القانون يهدف إلى بناء الصرح الديمقراطي ودولة مؤسسات لا تزول بزوال الرجال".

ويمضي كوزي مشددا على ضرورة، بل وأهمية الفصل بين النشاط المجتمعي والعمل السياسي، بالمعنى الشامل والواسع لكل منهما فيقول "إذا كان العمل الاجتماعي في إطار الحملات التطوعية الخيرية يعبر عن مدى وعي المواطن بدوره في تحسين الأوضاع فإن تأثير هذه المبادرات يبقى محدودا مقارنة بالعمل السياسي الذي يحدد الخطوط العريضة للنظام الاجتماعي من جهة، وكذا إمكانية اللجوء إلى القوة العمومية إن اقتضى الأمر بهدف رد المظالم والمساعدة في إطار عقد اجتماعي وقانون فوق الجميع من جهة أخرى، وليس بحسب أهواء المحسنين أعطوا من أموالهم أم منعوا".

في الجوهر، إذا كانت الجهة السياسية واعية لطبيعة العلاقة بين المفهومين، من حيث التكامل أو التميز، وتدرك بشكل واضح كيفية، العزف على الوتر الذي تختاره منهما، ومتى تقوم بذلك، فهذا أمر حسن، إما إذا كان اللجوء إلى العمل المجتمعي الخالص هو بمثابة الهروب للأمام من مزاولة النشاط السياسي تحت مبررات واهية، فهذا منحى خطير ينبغي التحذير من مخاطره، وتداعياته.

فتحول القوى السياسية الفاعلة في المجتمع إلى مجرد أداة للإصلاح الاجتماعي يفقد مثل تلك القوى مؤهلاتها التي تحتاجها لقيادة مجتمعها نحو إصلاح سياسي واضح المعالم راسخ الأركان.

تعليق عبر الفيس بوك