مقالٌ قبلَ ثلاثينَ عامًا

عيسى بن علي الرواحي
اطلعت قبل أيام على مقال قصير بعنوان (ثلاثة أعداد في الأسبوع) كتبه خالي العزيز في جريدة عمان عام 1985م، عندما كان طالبًا بكلية الحقوق في مدينة مراكش بالمملكة المغربية، وقد تحدّث فيه الكاتب عن شغفه وزملائه بالقراءة وحب الاطلاع؛ حيث بيَّن في المقال أنّه ذات يوم دخل إحدى المكتبات في العاصمة المغربية فلمح من بعيد جريدة عمان فلم يكد يُصدق أمر وجود الجريدة بتلك المكتبة حتى ظن الأمر خيالاً أو في مكتبة بإحدى مناطق السلطنة، وبعد أن اشترى الجريدة طار بها فرحًا إلى زملائه حاملاً إليهم مفاجأة سارة وبشرى سعيدة، حتى لم يستطع زملاؤه تصديق هذا الخبر إلا بعد أن شاهدوا الجريدة عياناً، فكانت حقاً هدية غالية جميلة لهم.
تقاسم الطلاب المغتربون الجريدة فرحين بها وكل واحد يقرأ نصيبه منها، وحسبي أنهم لم يناموا ليلتهم حتى أنهى كل واحد منهم قراءة الجريدة الكاملة القادمة من وطنه العزيز والتي تحمل اسم بلده.
تقدم الكاتب في نهاية المقال باسم جميع العمانيين في المغرب الشقيق ببالغ الشكر والتقدير إلى جميع من له الفضل في نشر الجريدة وتوزيعها في المغرب والبلدان الأخرى وإن كان بشكل غير منتظم، ورجا المسؤولين أن يسهلوا على الطلبة العمانيين الحصول على الجريدة، وزيادة عدد أيام وصولها إليهم إلى ثلاثة أعداد أسبوعيا على أقل تقدير.
مقال رائع يحكي عهدًا جميلاً في واقع الطلاب قبل ثلاثة عقود، وشغفهم الكبير بالقراءة والاطلاع، ورغباتهم الجامحة في التزود بالعلم والمعرفة ومعرفة أخبار بلدهم، وهو واقع شبيه بمشهد ازدحام الطلاب على المكتبة المدرسية أثناء الفسحة يوم كنّا طلاباً، فأين نحن اليوم من ذلك الزمن الجميل؟! وما واقع طلابنا هذه الأيام مع القراءة وحب المعرفة؟!

في الوقت الذي كنت أقرأ فيه هذا المقال تذكرت أحد الطلاب بالثاني عشر أعطيته جريدة، فلم يعرف طريقة قراءتها؛ حتى سارع في الاتهام بأنّ الفقرات ملخبطة وغير مرتبة، وأكاد أجزم بأنّ هذا واقع كثير من الطلاب، وطالب جامعي قال بأنّه لا يتذكر في حياته أنه قرأ جريدة، ولو أننا اليوم سألنا طلبة الجامعات والكليات قبل طلبة المدارس عن الصحف المحلية التي تصدر في بلدهم؛ لعجز الكثير عن إعطاء الإجابة الصحيحة الكاملة. وقد بلغ بنا الحال أن نجد العزوف عن القراءة حتى في الكتب الدراسية والأخطر من ذلك هجر قراءة المصحف الشريف.
ليست التقنيات الحديثة ووسائل التواصل المتقدمة هي السبب الرئيس في هذه الجفوة الكبيرة والهجران الكبير بيننا وبين القراءة حسب وجهة نظري، فربما غياب القدوة هو السبب الأهم؛ إذ ليس الصد عن القراءة والاطلاع مقتصرًا على أبناء هذا الجيل من طلبة الكليات والمدارس فحسب وإنّما عموم المجتمع من صغير وكبير ورجل وامرأة يُعاني هذا الأمر الذي وصل إلى درجة مخيفة بلغت أن يصد المرء عن قراءة الضروري والأساسي في شؤون حياته وأمر دينه ودنياه، وليس من المنطق أن نؤنب أبناءنا على عدم القراءة والاطلاع ونعاتبهم على ذلك، ونحن قد نكون أسوأ منهم؛ ولذا فلابد أن نبدأ بأنفسنا أولاً ثم أبنائنا والآخرين ثانيًا.
وعلينا بعد ذلك أن نغرس في نفوس الناشئة أن القراءة والاطلاع هي ما تعطي المرء قيمة ومكانة في مجتمعه وأمته، وهي ما تحقق له الأنس والارتياح، كما أنها تصقل شخصيته وتجعله أكثر دراية ومعرفة بأمور الحياة وأكثر قدرة على مواجهة تحدياتها ويصبح من خلالها آنسا بما يقرأ من شتى العلوم والمعارف، وبالقراء والمثقفين والباحثين تقوي المجتمعات والشعوب، وتكون لها عزتها وسيادتها، وتزدهر الأمم والحضارات، ويكفينا من ذلك كله أن أوّل آية نزلت في القرآن الكريم هي الأمر بالقراءة يقول الله تعالى : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [سورة العلق1_ 5]

نأمل أن نحسن علاقتنا مع خير جليس وأعز صديق، وأن نجد بيئات خصبة مشجعة للقراءة ومبادرات فاعلة مستمرة تشجع أبناءنا على القراءة والبحث والاطلاع، وتترجم لهم بأن الكتاب خير صديق وأفضل جليس تقوم بها مختلف المؤسسات التربوية والأندية الرياضية والمراكز الصيفية ووسائل الإعلام كمبادرة مكتبة السندباد المتنقلة التي قامت بها جريدة الرؤية العام المنصرم، وبرنامج القارئ الصغير الذي يبث عبر اﻹذاعة العامة من إعداد وتقديم الإعلامي المثقف سليمان المعمري ومشروع (الأطفال يقرأون) الذي استمر أربع سنوات (2011-2015م) مستهدفاً 26 مدرسة، وبرنامج قطار المعرفة الذي استهدف طلاب الحلقة الأولى، مع أهمية أن تقوم مراكز مصادر التعلم في مختلف المدارس بأدوار واضحة ملموسة في تشجيع القراءة عند أبنائنا الطلاب، ومن اﻷهمية أن يكون للقراءة نصيب من اﻹجازة الصيفية التي يعيشها الطلاب حاليًا وذلك من خلال دور اﻷسرة والمراكز الصيفية... والله المستعان.
issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك