مَوْت النقود

عبيدلي العبيدلي

أفصحت حكومة الدنمارك عن عملها "على خطة قد تصبح معها -عند تطبيقها- هذه لدولة الاسكندنافية أول دول العالم التي تتخلى عن التعامل بالعملة النقدية.. مشيرة إلى أنه ابتداءً من العام المقبل، لن يعود البائعون بالتجزئة، كتجّار الملابس وأصحاب المطاعم ومحطات الوقود، ملزمين قانونياً بقبول الدفع النقدي".

وكما تناقلت وسائل الإعلام، "تقود الدنمارك وجاراتاها الاسكندنافيتان -السويد والنرويج- بهذه الخطوة توجها عالميا نحو النقد الإلكتروني، يهدف إلى تقليص النفقات وتحسين الإنتاجية كما سيخفف من وطأة المصاريف الخاصة بتأمين حماية النقود وسيزيل عبء التصرف بالأوراق النقدية".

هذا ما نوه له المدير التنفيذي لاتحاد المصرفيين الدنماركيين مايكل باسك-جيبسين؛ حين أكد على أنه "لم يعد مجتمع بدون أوراق نقدية مجرد وهم... لكنه رؤية قد تتحقق في غضون فترة زمنية معقولة"، وكما تشير الأرقام، فقد "بدأ معظم الدنماركيين بالتخلي عن التعامل بالنقود واستبدالها بالخيار الإلكتروني؛ إذ يستخدم نحو 40 % من مواطني الدولة الاسكندنافية تطبيق (موبايل باي) من مصرف دنسكي".

وليست الدنمارك هي الدولة الوحيدة التي تشكل ظاهرة أوروبية استثنائية في هذا الصدد، فمن الملاحظ أن "هناك تزايدا مطردا في استخدام النقد الإلكتروني في عموم أوروبا مؤخرا، ولأول مرة تجاوز التعامل بالبطاقات، استخدام الأموال النقدية في المملكة المتحدة في العام 2014". يحدث هذا التحول على الرغم من تنامي عمليات الاحتيال في هذا المجال، حيث ارتفعت "عمليات الاحتيال المستهدفة لبطاقات الائتمان، وبلغت 1.4 مليار دولار في 2012، بقفزة قدرها 15% عن العام الذي سبقه".

بل ربما تكون السويد قد تخطت الدنمارك في هذا الاتجاه الرامي إلى التخلص من النقود الورقية، فوفقا لما نشرته صحيفة "الجارديان" البريطانية مؤخرا "يتضاءل دور النقد في السويد، ويعود ذلك -كما تقول الغارديان- إلى إقبال السويديين على التكنولوجيا المعاصرة واعتمادهم التجارة الالكترونية والدفع بالبطاقات الائتمانية من جهة، وحملة من أجل (مجتمع بلا نقود) من جهة أخرى، إذ تجري 80 % من المعاملات في السويد إلكترونيًا".

ووفقا لإحصاءات جمعية المصارف السويدية، تؤكد الجارديان على "أن القطاع المالي يعمل الآن بكلفة أقل، وأن عدد عمليات السطو المسلح انخفض إلى أدنى مستوى منذ 30 عامًا، فلم تعد هناك نقود لتُسرق".

وقد بدأت حاجة الإنسان إلى النقود منذ قديم العصور، عندما وجد الإنسان نفسه مضطرا لاستحداث وسيلة معيارية تنظم عمليات تبادل السلع والخدمات، وحينها ظهرت "النقود على شكل معادن من الذهب والفضة، وتطورت إلى أن أصبحت عملات ورقية" وكما يبدو اليوم، فإن "العملات الورقية ستكون من الماضي؛ حيث بدأت بعض الدول بالتعامل بما يعرف بالنقود الإلكترونية".

لكنَّ ذلك لا يعني خلو التعامل مع النقود الإلكترونية من أية مخاطر، هذا ما يؤكده الباحث أحمد جمال الدين موسى، في مقاله "النقود الإلكترونية وتأثيرها على دور المصارف المركزية في إدارة السياسة النقدية"، والمنشور في "مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، كلية الحقوق-جامعة المنصورة، العدد 29 أبريل، 2001"، عندما يحذر من احتمال "تعرض مؤسسة إصدار النقود الإلكترونية التي تستخدم في معاملات التجارة الإلكترونية إلى بعض المخاطر المالية التي تتعرض لها المصارف التقليدية مثل مخاطر الائتمان ومخاطر السيولة ومخاطر معدل الفائدة ومخاطر السوق".

والنقود الإلكترونية -كما تعرفها شركة الاستشارات والتدقيقات المالية آيرنست آن يونج- "هي مجموعة من البروتوكولات والتواقيع الرقمية التي تُتيح للرسالة الإلكترونية أن تحل فعليا محل تبادُل العُملات التقليدية".

أما البنك المركزي الأوروبي، فيعرف النقود الإلكترونية بأنها "مخزون إلكتروني لقيمة نقدية على وسيلة تقنية، يستخدم بصورة شائعة للقيام بمدفوعات لمتعهدين غير من أصدرها، دون الحاجة إلى وجود حساب بنكي عند إجراء الصفقة وتستخدم كأداة محمولة مدفوعة مقدماً".

ويؤرخ البعض لظهور النقود الإلكترونية إلى "العقد الثاني من القرن العشرين حينما تم تداولها بين شركات البترول الأمريكية، غير أنَّ العام 1650 شهد البداية الحقيقية والفعالة لاستخدامات النقود الالكترونية والبلاستيكية".

ويُميِّز أستاذ القانون المدني كلية القانون بجامعة القادسية أسعد فاضل منديل بين عدة أنواع من النقود الإلكترونية.. يحصرها في:

1- البطاقات البلاستيكية الممغنطة: وهي بطاقات مدفوعة سلفاً تكون القيمة المالية مخزونة فيها على شريحة إلكترونية مثبتة على بطاقة بلاستيكية مثل البطاقات الذكية.

2- النقود الإلكترونية البرمجية: وهي أنظمة برمجية تتيح مكافئاً إلكترونياً لا يحتاج إلى بطاقات بلاستيكية وهذه النقود تسمى النقود الشبكية.

3- المحفظة الإلكترونية: وهي عبارة عن بطاقة ذكية يمكن تثبيتها على الكمبيوتر الشخصي ليتم نقل القيمة المالية عبر الإنترنت، وهذا النوع من النقود الإلكترونية يُعد خليطاً مركباً من النوعين السابقين.

وربما خير من وصف النقود الإلكترونية هو (Joel Kurtzman) في كتابه (The DEATH OF MONEY)، أي طموت النقود"، كما جاء في الترجمة العربية التي قام بها محمد بن سعود العصيمي.. وقال فيها مؤكدا "أنَّ الذي تغير في هذا العصر هو شكل النقود لا النقود نفسها؛ إذ إنَّ النقود التي تستخدم ليست مبنية على الورق والمعدن، بل على التقنية والرياضيات والعلوم، ويطبق المؤلف مقولة آينشتاين إن الفوتون يخلق عالمه، فيقول إن هذه النقود تخلق بدورها مجالها الذي تنطلق فيه".

ربما من المبكر التنبؤ بالوقت الذي ستدفن فيه النقود الورقية، لكن ما هو مؤكد أنها لم يعد بوسعها الصمود أمام منافستها الإلكترونية، وهذا ما يعني أن موتها أصبح قريبا، وأنها ستأخذ معها من يرفض، بغض النظر عن المبررات، الاقتصاد الذي يرفض التهيؤ لها، والاستعداد الفعلي لاستخدامها.

تعليق عبر الفيس بوك