سبلة ترتان.. كثيرها فتنة أكثرها هذيان

ناصر أبو عون

عندما تقوم "هيئات تنظيم الاتصالات"، و"شركات الاتصالات الوطنية والأجنبية" العاملة في عالمنا العربي الكبير من المحيط إلى الخليج بنشاط مُتزايد وعلى مدار الساعة في متابعة وتعقّب "المواقع الإلكترونية الإباحية"، متكبِّدةً جرَّاءَ هذه المهمة ملايين الدولارات. يجعل من الواجب علينا تقديم الشكر لها والثناء على جهدها. ولأن الكمال غاية لا تُدرك لذا نلتمس لها الأعذار إذا كان هناك من نقص أو تقصير غير أنَّ إسداء النصيحة واجبٌ قانونيٌّ وشرعي على كل مواطن؛ ولهذا وجب التنبيه على ضرورة إعادة "البوصلة" إلى الاتجاه الصحيح.

فتصفُّح المواقع الإباحية في النهاية "مسألة شخصية وسلوك فردي"، بينما لو خصصت شركات الاتصالات وهيئات تنظيم الاتصالات ميزانياتها الضخمة في تعقّب "الحسابات الشخصية"، و"المواقع"، و"المنتديات" التي تتخفى وراء "أسماء مستعارة"، و"حسابات وهمية" تستهدفُ "محاربة الناجحين"، و"الإطاحة بمؤسسات الدولة"، و"إفلاس المؤسسات الوطنية وإخراجها من سباق المنافسة" لصالح شركات أجنبية، و"تلويث سمعة الكفاءات الوطنية" لصالح "العمالة الوافدة"، و"تدمير وحدة نسيج المجتمع"، و"إخراج الأعراف والتقاليد المجتمعية من المعادلة التكنولوجية"، وصولا في بعض البلدان إلى "إسقاط الدولة نفسها".. لكان ذلك خيرًا للأمة (بشرًا وحجرًا).

أقول هذا الكلام وهناك أصوات تتعالى هنا وهناك تلطُم الخدود، وتشق الجيوب على "حرية التعبير".. حرية التعبير يا إخوتي في "العروبة والإسلام" لم تمنع رئيس وزراء أقدم وأعرق أكبر دولة ديمقراطية من قول كلمته المشهورة: "إذا تعرَّض الأمن القومي للبلاد، فلا تسألوني عن حقوق الإنسان".

وفي مصر، أصدرتْ محكمة مصرية قرارا بإيقاف موظف بشركة مطاحن القاهرة بسبب نشره على مدونته الخاصة ما وصفه بوقائع، ومخالفات تتعلق بالشركة. وجاء في حيثيات الحكم القضائي: "إيقاف الموظف المذكور عن العمل لحين الانتهاء من التحقيقات وصدور حكم نهائي باتٍّ. وذلك لتكراره وقيامه بالإبلاغ عن وقائع ومخالفات تمس الشركة والقائمين عليها على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) مما يُؤثر بالغ الأثر على موقف الشركة بين الشركات الشقيقة والبورصة، ويؤدى إلى إصابة الشركة بأضرار بالغة وجسيمة"؛ وذلك طبقا للمادة رقم (103) من ﻻئحة نظام العاملين بالشركة.

وحرية التعبير أيضًا لم تمنع القوى العظمى الوحيدة في العالم من "التجسس على الهواتف الخاصة والحسابات الشخصية لمواطنيها"؛ متعذرةً بالحفاظ على الأمن القومي للدولة. وكشفت تقارير أصدرها "مركز متابعة شكاوى الإنترنت" ارتفاعَ عددِ جرائم انتهاك الخصوصية والسرقة والاحتيال ونشر الفضائح والتعريض بسمعة الأشخاص والإساءة للشركات والمؤسسات الحكومية والخاصة في الولايات المتحدة، بنسبة 33 في المائة، وزاد عدد الشكاوى ليصل إلى 275 ألف شكوى وهو أعلى رقم يسجله المركز منذ إنشائه.

وإذا كانت وسائل الإعلام الحديثة أصبحتْ من مُستلزمات الحياة، وضرورات العصر فلابد من اتخاذ التدابير اللازمة لحماية النسيج الاجتماعي للأمة بعد أنْ تنوَّعت إشكالياتها بين "النصب، والاحتيال، والتشهير، والابتزاز العاطفي والمادي وقضايا اختراق للمواقع الإلكترونية الرسمية، وسرقة وتحويل الأموال عبر شبكة الإنترنت الدولية، والهواتف المحمولة، ووسائل التواصل الاجتماعي عبر المدونات والمدونات المصغرة -مثل تويتر وسينا ويبو- ومواقع شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك ومواقع تبادل الفيديو مثل اليوتيوب...وغيرها، والتي تسمح للأفراد الدخول إليها والاطلاع على ما تحويه من معلومات وبرامج حسنة وسيئة في الوقت نفسه، دون وجود رقيب على ما تحتويه.

... إنَّ وسائل الإعلام لا تؤثر في الأشخاص فقط، ولكن تؤثر في الثقافة؛ حيث تقوم وسائل الإعلام بتعزيز الأعراف الاجتماعية ونشرها. ولقد أدى الاستخدام الخاطئ لوسائل الاتصال الحديثة -خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي- إلى انتشار بعض الأفكار التي تثير الفتنة وتضر بالوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي؛ بل يمكن القول: "إن الاستخدامات السلبية لشبكة الإنترنت أصبحت طاغية في يومنا هذا، حيث أصبحنا نلاحظ أقصى أشكال التدخل في خصوصيات الأفراد وتمثل في غالبيتها سرقات فكرية واقتصادية...إلخ".

وإذا كان عالم الاجتماع إنتوني غدنز أكد أن مضمون الإعلام العربي لا يحتوي في الغالب على ما يحتاجه الجمهور أو ما يمكن أن يساعده في تكوين شخصية الإنسان الواعي بمشكلات وقضايا وطنه، فإنَّ الإشكالية الأساسية التي تعاني منها وسائل الإعلام الحديثة ليست في "الوسيلة نفسها" الإشكالية تتعلق بجناحين: الجناح الأول هو "المتلقي/المتصفح" الذي هو في الأساس ليس مدربا ثقافيا على نقد كل ما تقع عينه عليه، ومن ثَمَّ يتحوّل إلى ضحية. والجناح الثاني يتمثل في "حراس البوابة" وهم الأشخاص الذين ينتقون الرسالة الإعلامية ويصدرون أوامر نشرها إلينا نظراً لأن "بعضهم ملوَّن ولا نعرف قيمهم وأخلاقهم التي يؤمنون بها"، وتكون نتيجة ذلك تلقي أفراد المجتمع بعض السلوكيات الخاطئة التي تسهم في تدمير أخلاقهم؛ فعالم الأسرة البسيط لن يستطيع أن يصمد كثيرا أمام عالم التكنولوجيا المركب والجذاب، حيث انحاز الشباب إلى التواصل مع أقرانهم والأشخاص الافتراضية على حساب التواصل الأسري.

لقد أصبحتْ وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات العربية والمدونات الشخصية التي تحمل أسماء مستعارة وحسابات افتراضية وسيلة لهدم بنيان المجتمع والتعريض بشخصياته، ووسيلة لقتل القدوة في أذهان الناشئة، وطريقة مثلى ووصفة سحرية للإطاحة بمؤسسات الدولة، خاصةً المؤسسات الاقتصادية والرسمية؛ لذا وجب على المسؤولين والمنظمات والهيئات المسؤولة عن حماية المجتمع تحديث قوانين الإنترنت، والإعلام، وتطوير القانون الجزائي واتخاذ خطوات عملية في إغلاق المواقع والحسابات الافتراضية وإلزام المواطنين والمقيمين باستخدام الأسماء الحقيقية وتحمّل مسؤولية النشر، فلسنا أقل من بلدان متقدمة مثل: الصين، أو كوريا، أو تركيا....وغيرها من البلدان التي ما عادت تسمح لمن يقيمون على أراضيها -مواطنين، ومقيمين- باستخدام حسابات افتراضية وأسماء وهمية.

لقد أدَّى الاستخدام غير الرشيد للفضائيات والإعلام الالكتروني والاستخدام المتزايد لشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعية، وكذلك أجهزة النقال المتقدمة. إلى ظهور أصناف غير محمودة من السلوكات الاجتماعية والخلقية والقيمية والتي تتعارض مع قيم ومرتكزات الهوية الوطنية ومن هذه القيم سيادة الطابع الاستهلاكي لدى المواطنين.

فعلى سبيل المثال، تُشير البيانات الواردة في "مرصد أحوال الأسرة" لإمارة أبوظبي بأنَّ معظم المُستطلعة آراؤهم (80%) أعربوا عن قيامهم بتبديل هواتفهم المحمولة بشكل مستمر. مما يعطي دلالة على سيادة الطابع الاستهلاكي للمواطنين، والمقيمين. في حين بلغ متوسط إنفاق الأسرة على الهواتف المحمولة 4200 درهم إماراتي.

والإحصاءات المشار إليها سابقًا تقتضي من جميع الدول العربية والإسلامية بناء "مراصد وطنية" تكون وظيفتها متابعة وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية على السواء، ورصد الإشكاليات والتحولات، وقبل بناء المراصد يتحتم على وزارات الإعلام والجهات المعنية إلزام وسائل الإعلام المحلية بوضع "دليل مهني"، وآخر "أخلاقي"، أو ما يسمى بـ"مدونة، وميثاق شرف مهني" يحتكم إليه "المواطن الصحفي"، و"الإعلامي المحترف" و"المؤسسات الإعلامية" على السواء. كلُّ ذلك ضروري إيجاده ولكن بعد "وضع سياسة إعلامية وتحريرية معلنة"، و"بناء خطط إستراتيجية" يلتزم بها جميع المنتسبين لمهنة الإعلام أو المتصدرين لعملية النشر سواء الورقي أو الإلكتروني حمايةً للأوطان مما يُستجد من إشكاليات قد تعصف بالنسيج الاجتماعي للأمة.

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك