على حافة المعنى

ناصر محمد

عندما يخفت صوت الحقيقة تصبح الألفاظ مثل "الغاية" و"الهدف" و"الأمل" لا وميض لها، وتتعمق الأزمة إذا تم التشكيك بالحقيقة من جهة العلم حين يُعرى الإنسان سيكولوجيّا ويفقد مركزه بيولوجيّا ويصبح في النهاية مجرد "ظاهرة لغوية". وللحروب سطوتها في تحطيم ذلك الإيمان بالخير حين يُطحن ملايين البشر تلبية لنداء صوت العقل على حد تعبير "كامو" في "الإنسان المتمرد"، والذي قد يؤدي في النهاية بكُتَّاب الحياة وتفاؤلها إلى الانتحار بتصميم اليائس مثل النمساوي "ستيفان تسفايج"، والذي وصف الأدب بعد الحرب العالمية الأولى بأدب الانحطاط، جاعلا من الفجر سخرية مسرحية!.

يتناول الناقد الأدبي الإنجليزي "كولن ولسون" هذه الظاهرة من تأزم الأدب في كتابه الدسم "المعقول واللامعقول في الأدب الحديث"، فهو من خلال بدايته في كتابه "اللامنتمي" يُسلط الضوء على بعض الأدباء ذوي الحساسية الشديدة من المجتمع بسبب إدراكهم الحاد للحياة وسقوط أقنعتها وعدم جدواها أمامهم مثل دوستويفسكي وبارباروس ولورنس وجويس وغيرهم، ويستأنف حديثه عن هذه الأزمة بطريقة أكثر تحليلاً في كتابه "المعقول واللامعقول" بوصفه ناقدًا أدبيًا ومركزًا على فكرة الخيال بين حيويته وكسله.

يتناول ولسون في كتابه عدة أدباء من النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى القرن العشرين مثل "غوغول" و"دوستويفسكي" و"تولستوي" و"لافكرافت" و"أوسكار وايلد" و"زولا" و"موباسان" و"سارتر" و"بيكيت" و"فوكنر" و"لورنس" و"تولكين" و"كازانتازاكيس"، وسبب اختيار ولسون لهذه العينة من الكتّاب هو اشتراكهم في عدة نقاط مثل استبعاد المعقول من أدبهم، والسباحة في بحر بلا سواحل، وأن الشر هو الغريزة الأصلية للإنسان.

تتراوح الاتجاهات بين أدباء اللامعقول في التعبير عن رؤاهم ومعانيهم أمام عدمية الحياة، فمنهم من يصورها عبر الرعب المحض مثل لافكرافت وفوكنر، ورفض الحياة مثل أوسكار وايلد، وكره النساء مثل غوغول، والإعلاء من شأن الجنس والجسد مثل موباسان ولورنس وقبله ماركيز دوساد، والمعاناة والتعذيب الذاتي مثل دوستويفسكي وكازانتازاكس، وتصوير مشاهد العنف مع استبعاد التأمل فيها مثل أميل زولا، والانفصال الحاد بين الواقع والخيال مثل تولكين. يميز ولسون بين نوعين من الأدباء وذلك بالتشبيه الشيكسبيري الذي طرحه بالأسماك التي تسبح نحو البحر وهم فئة كتّاب الأدب المعقول، والأسماك التي تركض لاهثة للأرض وهم الفئة التي تنبذ المعقول من أدبها، وتتميز الفئة الأولى بالانطلاق ووضوح مفهوم الخير والشر مثل تشارلز ديكنز وفيكتور هوغو، أما الفئة الثانية فتتميز بالتشكيك بهذه المفاهيم وبالتشاؤم من حقيقة الحياة العدمية، فالعقل التحليلي والتأمل لا جدوى لهما، والأحداث ليست متصلة في حقيقتها بهدف معين بقدر ماهي أوهام إنسانية تحاول أن تشكل صورة مثالية لها تبعدها عن الواقع.

وهنا يقوم ولسون بالتعمق في هذا التوجه الأدبي باعتباره "أزمة"، فالخيال وإن كان تعريفه السارتري "يقضي بخلق عالم لا وجود له بالفعل"، إلا أنّ هذا التخيّل ليس له حياة إذا لم يكن مشمولاً بإرادة فتح بعض الأبواب المسدودة بمفتاح الفنان الساعي إلى جعل الحياة أكثر احتمالاً وجمالاً‍! وهنا يوضح ولسون عن طبيعة الخيال في كتّاب اللامعقول حين يصلون إلى مناطق مغلقة والتشديد على عدم وجود المفتاح السحري لها.

ويكشف ولسون المناطق الهامشية التي يعيش بها كتّاب اللامعقول، فالرعب والجنس والمعاناة ورؤية الحياة مثل آلة التصوير الجامدة لا تملك تلك الرؤية الأصيلة التي تتصل بالواقع والمشبوبة بإرادة الحياة بقدر ما تدعو إلى الانسحاب منها، ويُبين ولسون كره كتّاب اللامعقول للمادية وللعلم ولكن بطريقة غير دينية، في حين أن العلم يعتبر حافزًا للدفع بالمسيرة والخيال البشري للأمام حين تختفي تلك العصابات النفسية عن صاحبها، ويوضح ولسون ذلك من خلال كتّاب الخيال العلمي منذ بداية القرن العشرين الذين غذّوا خيالهم بالعلم وتوغلوا في مناطق مجهولة جعلت من أدبهم حيويًا ومدهشًا.

أخيرا، لا يمكن إخفاء حدّية ولسون على بعض الكتّاب وإصدار بعض الأحكام التعميمية القاسية التي قد تضلّ السبيل في الرؤية إلى الأدب، مثل تسطيحه لبعض أعمال دوستويفسكي الرائعة كـ "ذكريات من منزل الأموات" و"مذلون ومهانون" واعتبارهما خارج المألوف حين يتدخل دوستويفيسكي فيهما مثل المحرك الأوحد للدمى بطريقة عصبية.

تعليق عبر الفيس بوك