نقد الحال الراهن(23) النقد

د. صالح الفهدي

أعظمُ جدارٍ يحولُ بين الإنسانِ والمجتمعات عن النماءِ والتطوير، والبناءِ والتعمير هو الجدارُ الذي يصدُّ النقد..! ذلك الجدارُ الذي يقومُ للدفاعِ عن عزّة الشموخ والكبرياءِ المزعومة..! وهو في الحقيقة جدار الظلامِ الذي يمنعُ شمس الحقيقةِ من السطوع في أعماق البصيرة..!. إن الهدوء التام الذي يعمُّ في دواخل البصيرة يبقيها طاقة راكدةً لا يثيرها مثيرٌ مغاير، فالأفكارُ هي الأفكارُ لا جديد فيها، إلاّ أن تستثار بمواجهةِ أفكارٍ لم تعهدها من قبل، أفكارٍ مخالفةٍ في طرحها، ورؤاها، فتتحرك طاقة البصيرة من أجلِ التفكّر في هذه النوازل الفكرية الجديدة، مستنفرةً قدرتها الذكائية، ومحرّكةً قواها الخاملة كي تتمعن فيها، وتتفاعل معها إيجاباً أو سلباً ولكن بما يتناسبُ مع الحجج والدلائل.

إننا نعيشُ في مجتمعاتٍ يضيقُ أفرادها بالنّقدِ، لأن النقد في المنظورِ النفسي هو كسرٌ للعزّةِ، وإضعافٌ للشخصية، وهزيمةٌ للكبرياءِ وهذه أمورٌ لا يرضاها الشرقي بحكم طبيعته وتربيته..!

أمّا في ديننا فالنقدُ واجبٌ "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" آل عمران/110، بل هو الوجهُ الآخر للدّين "الدّينُ النصيحة" حديثٌ شريف. لكنّك ما إن تُبدي وجهةَ نظرٍ ناقدةٍ لفكرةٍ ما لدى أحدى الأفراد حتى ينشغل ذهنه على الفور بالتحفّز للدّفاعِ عن فكرته، ورأيه، ووجهة نظره، لا أن يستمع لك بإنصاتٍ ممعن، ويوليك اهتماماً، ويفكّر في معنى ما تقول..! يردُّ عليك فور ما تنتهي أو يقاطعكَ منفعلاً قبل أن تكملَ حديثكَ وهو لم يعِ ما قلتَ، ولم يعقل ما أبديت..! إنّها بالنسبةِ إليه "معركةُ كرامة" لا مناص من النصر فيها كما يقول الشاعر :"لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ" ..! ونبيّ الأمّة الكريم وصحابته الأجلاّء تقبّلوا النقدَ برحابةٍ دون امتعاظٍ وكبرياء. يقول فريد الأنصاري:"إن النقد هو أول الخطوات لتبين الطريق السليم للفهم السليم والعمل السليم، ومن هنا كان الحفاظ على حاسة النقد في المجتمع المسلم واجبا شرعيا، وضرورة اجتماعية بكل المقاييس.

إن الذي يوصدُ بابَ عقلهِ عن سماعِ النقدِ البنّاءِ الذي يصدرُ عن نفسٍ عامرةٍ لا هدّامةٍ لا يحيا إلاّ أعمى البصيرة، يرى رأيه وحسب، فهو متخبِّطٌ في شتى السّبلِ لا يستقرُّ له قرار، لأنه يمضي سادراً في الظلمات، تأخذه العزّةُ بالإثم قياساً لقول الكاتب المكسيكي الحائز على جائزة نوبل أو كتافيو باث أن: "أمة بلا نقد هي أمة عمياء". لقد وأدتَ هذه العزّةُ الآثمة النصيحة الناقدة وأقصتها بل وناصبتها العداء والخصومة الفاجرة، فإذا بالناس يتحاشون النقد لأن فيه خسرانٌ للقلوبِ وإن كان فيه ربحانٌ للمواقف.

فأصبحَ من ينتقدُ جهةً ما احتسبَ ذلك النقدُ موجّهاً بصورةٍ شخصية لرئيسها، وهنا تستنفر كل تلك المؤسسة طاقتها لمعاداة ذلك المنتقد، فيوضع في القائمة السوداءِ ممن لا يجوز التعاملَ معهم، بل ويعاقب من يتجاوز ذلك القانون غير المكتوب..! يقول أحدهم:" انتقدتُ ذات مرّةٍ مسؤولاً فإذا بكلِّ المشاريع القائمة تتوقفُ بيني وبين بقية الدوائرِ في تلك الجهة، ويوجّه لي اللومُ بأنني قد انتهكت المحرّمات..!".. ويقول مسؤولٌ آخر:" أن الإختلاف مع المسؤول الأعلى ثمنهُ خسرانُ الوظيفة، ذلك لأنني لم أرض بالتسليم والطاعة في ما ليس سليماً من الأوامرِ والقوانين، لكن المسؤول الأعلى اعتبرَ ذلك امتهاناً له وانتقاصاً من مكانته، وزرايةً بمنصبه فأقصاني ليُدني من يقول له لبيّكَ وسعديك..!"

إن سوء الظنِّ هو الذي يقودُ ردّات الفعلِ، ويوجّهها الوجهات السلبية التي ليس من بينها التسامح، وقبول الرأي الآخر، واعتقاد وجود الخطأ، والنيّة الحسنة في الطرفِ الآخر. هذه العقدة مصدرها مبني على التراكمات الاجتماعية لمعتقدات الحسدِ والحقد والنوايا السيئة المبطّنة. لا يمكنُ في مثل هذه الحالات إلاّ التخلص من المسلّمات والمعتقدات الراسخة في العقلِ الباطن واعتقاد النوايا الحسنة في الطرفِ الآخر حتى يسهل التحاور وقبول وجهات النّظر.

سألني محاورٌ إعلامي عن سبب اختفاءِ النقّادِ من السّاحة فقلتُ له: لأن ثقافة النقدِ ليست سائدة في المجتمع، فالناقدُ سيعرض علاقاته للإنصرام والقطيعة إن هو انتقد عملاً من الأعمال..! ثقافة النقد لا توجد في البيوت لتربّى النشأ على أدبيات الاختلاف، وقبول الرأي الآخر، لأن السلطة الأبوية لا تقبل النقد الذي يعدُّ عصياناً، وشقاً لعصا الطّاعة..! فكيف تتوقّع أن ينشأ الأبناء؟! هذا الأمر علاجهُ يكمنُ في خلق مساحة للنقد البنّاء يتيحها المربون لأبنائهم بصورةٍ واعية لا تعني انتقادهم كأشخاص وإنّما إبداء وجهات النظر في الأفكار والنظم والآليات والتقاليد.

حتى اللفظة "نقد" ذاتها تواجهُ بحساسيةٍ في المجتمع على اعتبار أنها اصطلاحاً تعني جلاء المعايب، بينما هي في الأصل بيان المحاسن والمعايب، هذا يعني أن النظرة التشاؤمية تجاه النقد صورة العملية ذات وجهٍ واحدٍ كالحٍ، يترصّد الأخطاءِ، ويتصيّد الزلاّت، ويبيّن العُور.

الإشكالية التي وقع فيها الكثيرون منّا هي أن قيمة الأفكار لديهم بحسبِ العلاقةِ مع الأشخاص وليتها بحسب قيمتها..! فالأفكار المخالفة الصادرة من أشخاصٍ بينهم جفاء أو بُعد هي أفكارٌ مرفوضة وإن كانت على صواب..! أمّا إن صدرت من أشخاص تربطهم بهم علاقة ود فإنهم يقبلونها بودٍ، وسماحةٍ، وإن كانت غير واقعية، وهذا عكس مقولة الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه:" عرفت الرجال بالحق ولم أعرف الحق بالرجال". أمّا الإشكالية الأُخرى فهي أن البعضَ وحدةٌ متضامنة فكرياً مع "شلّتها" ضد الآخر، فإن أخطأت هذه "الشلّة" وانتقدت بعض أقارب أعضائها تفككت عُراها، وبدأت الخصومة والخلافات تدبُّ بينهم.

إن مجتمعاتنا مؤسسات وأفراداً بحاجة إلى النقدِ التقييمي، التقويمي الذي لا يُبنى على نيّات مبيّتة، وأحكامٍ جاهزة، وأسئلة خبيثة، وإنّما يبني من أجل المعرفةِ والحقيقة والموضوعية. مجتمعاتنا بحاجة إلى من يستطيعون التفريق بين "الذاتي" و"الموضوعي" فلا يتداخلان في بينهما حتى لا تختلطَ في الناقد "مهنية النقد" مع "ذاتية المشاعر"، ولا تمتزج في المنتقد "فكرة المؤامرة" مع "موضوعية النقد". تصف الكاتبة آن بنت سعيد الكندي المحاور الإعلامي البريطاني المخضرم تيم سباستيان Tim Sebastian بأنه المحاور الشرس على منصة الحوار، تراه شخصا ودودا خارج المنصة، فسألته: كيف استطاع أن يجمع بين الصفتين؟ فأجابها بالقول: أنه لا يخلط بين الأمور الشخصية والعمل. فتعقّب على إجابته قائلة: "قاعدة تبدو بسيطة، لكن هي بعيدة عن مجتمعاتنا ومن يتصف بها يصبح شخصية غير محبوبة".

إن الأب الذي يربي أبناؤه على كلمة "أسكت" لا يمكن أن يسقي بذرة النقد وتقبّل الرأي الآخر في أبنائه.

والمحاضر الجامعي الذي يقذف بأوراق البحث في وجوهِ طلاّبه لا يمكن أن يعلّمهم موضوعية النقد، واحترام الإختلاف في طلاّبه، بل يزرعُ فيهم شخصانية الحقد، والكراهية.

والمسؤول الذي يقصي كل من يعارضه، ويهدد ويتوعد من يخالفه لا يمكن أن يقود مجتمعات لنشر ثقافة النقدِ الحصيف.

والكاتب الذي يحشو في كتاباته هذْرَ فلان، وهرج علاّنٍ لا يحق له أن يطلب مساحةً للنقد.

وصاحب المصلحة التي يريدها على خلاف القانون فلم تتحق هو آخرُ من ينتقدُ لأن نقده مبنيٌّ على انتقامٍ وثأر شخصي.

والمصلح الاجتماعي الذي لا تغاير أفعاله أقواله لا يجوز له الإنتقاد لأنه من الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم..!

النقدُ إذن له أدبياته، وآلياته، وأخلاقياته، وطرقه الموضوعية، فكم من فكرةٍ حسنة صيغت بأسلوبٍ جارحٍ تم اعتراضها، والتصدّي لها، وكم من فكرة بسيطةٍ صيغت بأسلوب لطيف لاقت قلوباً مرحّبة، وأنفساً مستقبلة، وعقولاً منفتحة..

وما لم تَسُدُ ثقافة النقد الرّشيدِ الهادفِ إلى البناءِ الوطيد، فلن تتحرّك مجتمعاتنا إلى ما يعزّز مكانتها بين المجتمعات الحضارية، بخطى مكينة، وأنفسٍ واثقة، يقول د. عبد الكريم بكار:"إن المراجعة والنقد الذاتي يسببان آلاما ولكنهما يمثلان الخطوة الأولى على طريق إيقاف التدهور." ذلك لأن رفض النقد وعدم قبول الرأي الآخر وإقصائه بل واحتقاره وتخوينه لا يتوائم مع المنهج الديمقراطي في إدارة الشعوب، وهو المنهج الذي لا حياد عنه لأجل الحراك الاجتماعي الواعي، وإدارة شؤون الدولة.

تعليق عبر الفيس بوك