نقد الحال الراهن (22) الواقعية

د. صالح الفهدي

استشارني في مشروعٍ ما، فطلبتُ إليه أن نجلس لنناقش التفاصيل، فهربَ ولم يعد، وبدأ مشروعه فواجه فيه العثرات، واصطدم في الواقع بالمُعوّقات ..!

الهروبُ من الواقعِ سمةٌ تفشّت في الكثيرين بيننا، وهي تتباينُ في صورٍ متنوعةٍ، وأنماطٍ مختلفة، ذلك لأن البناء الشخصي لم يُبنَ على التعاملِ مع الواقع من الصِّغر، وإنّما بُني على مثاليات ليس لها في الواقعِ موضع، أو أنه أُسِّسَ على الخوفِ من الواقعِ لأنّه صعبٌ ومستحيلٌ فكرّستها الأمثال الشعبية"العين بصيرة، واليد قصيرة"، و"ليس في الإمكان أبدع مما كان"، فترى ذلك الشاب الحالم وهو يهربُ من واقعهِ كلّما ناقشته فيه، وترى الآخر لا يقرُّ له قراراً في بيتهِ لأنه يواجهُ فيه واقعَ أُسرته والتزاماتهِ نحوها..! وتجدُ ثالثاً وقد اتَّخذ له من مقاهي الشيشةِ وكراً لا يحولُ عنه، يفزعُ إليه من واقعهِ المرير، فيُخدّرُ نفسهِ بالدّخانِ الكثيرِ، والإغراءِ المُثير..! وتجدُ واحدةً وقد زوّقت حياتها، ولمّعت مظهرها، وهي زائفة المظهر، متحايلة على حقيقة الواقع..! وترى ثانيةً وهي تحيا بروحٍ كئيبةٍ، ونفسٍ يائسة..!

يقول باتلر:"للشباب أجنحة تطير بصاحبها سريعاً إلى بلاد الخيال فلا يرى أمامه إلا الأفراح والمسرات ولا يعلل نفسه إلا بالآمال والأماني"ويقول وجر فريتس"الفرق بين الواقع والحلم هو كلمة من ثلاثة أحرف (عمل)."

شبابٌ يهربُ من الواقع فقد وزّع وقته بين لعبٍ دائمٍ، ومشاكساتٍ مستمرةٍ حول المباريات الرياضية، ومشاهدة الأفلام، ووجبات الطعام، ونزوعٍ نحو كلّ ما يُلهي النفسَ عن الواجبِ في الحياةِ، ومواجهة الواقع، فإن حصل وواجهته معضلة في واقعه تكسّر وخضع، ويئس وقنط، ولام وعاتب، واستنجد وتوسّل..! هذا لأنّه لم يعوّد منذ صغرهِ على تقبّل الواقعِ كما هو، كما لم تحمله نفسه لاحقاً على تطبيع نفسهِ على التعامل مع الواقع، يقول رالف إيمرسون:"افعل الأشياء التي تخاف من فعلها وسوف يموت الخوف الذي بداخلك".

الطفلُ منذ الصغرِ يُعاملُ على أنّه طفلٌ جاهلٌ لا يعي، وصغيرٌ لا يُدرك، وضعيفٌ لا يستطيع، يدلّلُ حتى ينشأهُ التدليلُ على الهِنةِ والكسل، ويقسى عليه حتى تُنشأُه القسوة على البغض والكراهية وكلا الأمرين يدفعانِ به إلى الهروب من الواقع. يكبرُ وفي نفسهِ إحساسٌ بالضعةِ والتفاهة، يحتقرُ نفسه، ولا يجدُ لها قيمةً بين النّاس إن قارنها بهم، فلا يرى نفسه إلاّ خارجَ الواقع.

أما في المدرسةِ فيغيبُ الواقع عن الطالب فلا يعرف كثيراً عمّا يقع خلف جدران المدرسةِ، في شؤون المجتمع، وقضاياه المصيرية، وجوانبه التنموية، وقطاعاته الصناعية والتجارية والزراعية والسياحية وغيرها. تحضرُ المناهج الظاهرة في شكلٍ كلماتٍ وصور وتغيب المناهج الخفية (Hidden Curriculum) التي تتكون كما أشار لها فيليب جاكسون (Philip Jackson) مما تعلمه المؤسسات التعليمية للمتعلمين من سلوكيات اجتماعية، واتجاهات، وقيم، ومعارف خارجة عن نطاق الكتاب المدرسي، واللوائح المكتوبة فالمدرسة ليست أداة لنقل المعلومات فقط، وإنما هي واقع مصغّر يتعلّم منه الطالب طرق التماثل والتلاؤم. يقول النبي عليه أفضل الصلاة والسلام:"لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ". والمُعَاينَةُ هي المشاهدةُ بالعَيْنِ، ونزول الميدان، والاستفادة من الخبرات.

الانغماس في الملذات هو هروبٌ من الواقع، لأنّ الواقع يتطلبُ الاعتدال والترشيد والموازنة، والنفسُ تغريها المغريات فلا يضبطها ضابط..!

والإفراط في قضاءِ الوقت على الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي هروبٌ عن الواقع، لأنّ في ذلك عيشٌ في عالمٍ افتراضي غير واقعي، وهو ما ليس له تأثير إيجابي ملموس في حياةِ الإنسان.

والإكثار من مشاهدة الأفلام هروبٌ من الواقع لأنّ الأفلام لا تصوّر الواقع بل تخلق عوالمَ افتراضية لا ترتبط إلاّ نادراً بعالم الواقع، يقول Chris Kattan: "في هوليود تقوم صناعة الفيديو على الهروب من الواقع بالذهاب إلى مشاهدة الأفلام".

التسكّع في الشوارع والمراكزِ لغيرِ هدفٍ مرسومٍ، وغايةٍ نبيلةٍ هروبٌ من الواقع، وعيشٍ في حالةٍ زائفةٍ، هي مزيجٌ من المتعةِ المؤقتةِ والشقاء المستمر..!

تعاطي المؤثرات العقلية وإدمان المخدرات هروبٌ عن الواقعِ إذ تخدّر العقلَ فيغيب عن واقعه في عالم خرافي مؤقّت، يصاحبه فتورٌ مقيت، واسترخاءٌ مميت..!

لا قيمة للإنسانِ إن لم يكن واقعياً، يواجهُ الواقع بحصافةِ عقلٍ، وعزيمةَ نفسٍ، واتزان رأي، وحسن تدبير. ولا تقدُّمَ للمجتمعات إن لم تكن واقعيةً في معالجتها للقضايا التي تتعلقُ بنمائها، وتطورها، ومصيرها. فأكثرُ المؤسسات في مجتمعاتنا حسّاسةٌ من نقدِ الواقع فإذا نقدَ مواطنٌ جانباً ما في نطاقِ عملها تذمّرت واغتاظت، وتحوّل التفكير لديها عند النقد في كيفية كبح جماح الناقد بدلاً من كيفية التعامل مع الواقع المنتقد..!.

إن الإشكالية تكمنُ في طرق التنشئة ومنهجية التعليم في مجتمعاتنا حيث تغيبُ أسئلةٌ (لماذا) و(كيف) التي تسعى إلى اكتشاف الواقع، وسبر جذوره، والتعرّف إلى أسبابه. لهذا ظهرت السطحية في معالجةِ الأمور، والجمود في التفكير والاجتهاد، والتواكل والاعتماد على الغير، وضيق الأفق في الاختلاف والتسامح، والشكلانية، والحدّية، وغير ذلك من العيوب. يغيبُ الفكر الناقد الذي هو أساسٌ مكينٌ لمعرفة الواقع، وأداةٌ حكيمة للتعرف على أسبابه.

قد يأتِ من يقولُ بأنّ في الهروبِ من الواقعِ إيجابيّةً بإصلاحه، فأقول: إن الهروب من الواقعِ لا يقصدُ به بعض الاسترخاءِ والتفكّر، والترفيه والتدبّر، والخيال والتأمّل فذلك من مستلزمات الواقعية، وفي هذا يقول ريلكه:"أنا لا أعيش في الأحلام، بل في تأملات الواقع الذي ربما يكون المستقبل"،إنّما حالة الهروب من الواقع يقصدُ بها شعوره بالامتعاض من واقعه، والزرايةِ من معيشته، واحتقارِ حالته، والخجلِ من حياته، فيستقرُّ هذا الشعور في عقله الباطن فيُسيطر على تفكيرهِ وتصوّراته وعواطفه، ولا يستطيعُ الفكاك منها إلاّ بالهروب كليّةً من واقعه بشتى الوسائل.

وفي المقابل فإنّ العيش في الواقع لا يعني الإذعان له، والخضوعِ لنمطيته، وإنّما بذل المحاولات لتغييره، واستمرار الجهودِ لتطويره، يقول المفكر عبد الوهاب المسيري:"الإذعان والقبول بالأمر الواقع هما جوهر الجمود والرجعية". ويروي أيمن جمال المنتج التنفيذي للفيلم الكرتوني "بلال": أنّه كان كثيراً ما ينتقدُ في الجامعة بالولايات المتحدة الأمريكية أفلام هوليود، فاستدعته المُحاضرةُ ذات مرّة وقالت له: ليس من حقّك أن تنتقد لأنّك لست بصانع، والصانع هو المؤثر، وعندما تمتلك القدرة على الصناعة تستطيع حينها التأثير، فجاء من الغرب وفي ذهنه أن يُغيّر هذا الواقع لا أن يُذعن له ويسلّم له حتى أنتج هذا الفيلم العالمي عن شخصية إسلاميةٍ بارزة.

لا نقصد بالواقعية أي مذهبٍ من المذاهب، أو صنفٍ من الأصناف إنّما هي بإيجاز التحلّي بالمسؤولية الواعية للتعامل مع واقع الإنسان وما ينشأ عنه من قضايا ومواقف وأزمات، ومشاعر ونزعات، بإدراك الطرق المُثلى التي تضمنُ معيشةً حرّة، كريمةً للإنسان، ينشأ به مستقّل التفكيرِ، سليم النظرة، في اتزانٍ بين رغبات النفس، وحكمة العقل. الواقع في حد ذاته حالٌ متغيّر ولا يمكنُ أن يكون ثابتاً وإلاّ كان جامداً، يقول ألبرت أينشتاين :"كلما اقتربت القوانين من الواقع أصبحت غير ثابتة، وكلما اقتربت من الثبات أصبحت غير واقعية". هذا الأمر يعني أن الواقعَ متحرّك، وبحاجة للتغيير الأمر الذي يستلزمُ المعرفة الكاملة بعوامل التغيير ودوافع الحراك، فإن لم ينشأ الإنسان في مجتمعاتنا مدركاً كيفية التعاطي مع الواقع بحسٍّ عالٍ من المسؤولية هربَ بعيداً إلى ما يخدّر نفسه، ويريح عقله مما يعتبره مصدر إزعاجٍ، وتصديعٍ فعطّل نفسه، وجمّد حركة المجتمع معه..!.

تعليق عبر الفيس بوك