أَسْيَنة المخلجن ونجلزة المشرق وفرنسة المغرب

ناصر أبو عون

Nasser_oon@yahoo.com

نحن (شعوب أُبوية)؛ القبيلةُ عماد بنيتها، والتمسك بالأصالة، والأعراف النبيلة سِرُّ بقائها، وانصياع الصغار للكبير عمود خيمتها.. تلكم الحقيقة التي أضحتْ في وجداني عقيدةً راسخة لن أتحوّل عنها ما بقيتُ أتنفس، ولا مراء فيها؛ بل صارت تلك العقيدة من المسلّمات التي يؤمن بها كثير من الناس وأنا في مقدمة تلك الصفوف التي وُلِدَت وشبّتْ على هذا التوجّه الذي أضحى (خصيصة عربية بامتياز). وإنَّ محاولة الانعتاق من نسبتها، أو الانفلات من ربقتها، أو الخروج على أبجديتها (موت ثقافي) محتومٌ ومؤكد، وبمثابة خروج مخزٍ من (كتاب التاريخ المجيد)، إلى (سلة مهملات الأمم).

أقول هذا الكلام كنوعٍ من الإقرار بحقيقة واضحة ينبغي الانطلاق منها في (حماية اللغة العربية)، ومحاولة إعادتها إلى عرشها؛ إننا نحتاج إلى (قرار رئاسي)، أو(مرسوم سلطاني)، أو(مختوم أميري).. إلخ من المسميات والقرارات (الفوقية)، و(الأبوية)، و(العُلوية)، و(السياديّة) لحماية (اللغة العربية) في (بلادنا العربية)!! قبل أن يفوت الأوان ونتحوّل في نهاية المطاف إلى (عرب حُمْر القرن الحادي والعشرين)!! أقول هذا الكلام وأنا في بدايات الكهولة حيث مرَّت على عظامي (توصيات) قوائم طويلة من (الندوات)، و(المؤتمرات) حول اللغة العربية (سيدة لغات الأرض)، و(معشوقة الإنسان، واللسان العربي المُبين)، و(صائدة المتحذلقين، والروم، والأكاسرة، والسفاسطة، والأعجمين) بسهام بلاغتها فأوقعتهم (أسرى) في (شباك موسيقاها، ومعاجمها، وصورها)، فتقيدوا - طوعًا - في (سلاسل شِعرها)، و(سقطوا صرعى لفظها)، و(دفنوا شبابهم بين سطورها). سنوات تترى، وندوات تتابع، وتوصيات تتصارع، من أجل حماية (جميلة الجميلات)، و(سيدة اللغات)، ولم يبقَ من أثر لهذه الفعاليات غير بضعة (صور رثّة) مع وجوه بذلتْ مهجتها حفاظًا على لغة الضاد، والأجداد؛ حديثًا، وتوثيقًا، وبحثًا، وتوظيفًا.

وعلى المقلب الآخر وقفت شخصيات أخرى تبحث عن (بقعة ضوء) وتتصدّر المشهد (الثقافي والإعلامي) خداعًا حتى يكتب مُزيفو التاريخ (كذبًا) أنها من (حماة اللغة العربية)، وأنها سيَّرتْ الجنود، وأرسلتْ السرايا، وأسَرَت الغواني، والصبايا في معارك الدفاع عن (عرض لغتنا) المستباح داخل الحدود، وخارج الحدود.

كم من المؤتمرات عقدنا، وكم من حلقات العمل أقمنا، وكم من ندوات ناقشنا (الوضع الراهن للغة، وجماليات اللغة، وتكنيك اللغة، وعبقرية اللغة، والحصانة، والرطانة، والفصاحة، والانتحال، والاشتغال، والارتجال) ولم نخرج بأيّة نتائج تطبيقية، أو توظيفية، وانتهت التظاهرة الثقافية بالبحث عن مكان لائق لرصّ البحوث والدراسات، والمداخلات، والمساجلات على (رفٍّ خشبي أو معدني) في ركن قصي من مكتبة جامعية أو خزانة مكتبية يتيح لها معانقة الفراغ.

والمصاب أعظم عندما تُعرّج على (مؤسساتنا الحكومية والخاصة في الوطن العربي الكبير من أقصاه إلى أقصاه) حيث يفجعك جميع الرؤساء والمرؤوسين بحديثهم إليك بلغة أجنبية، وكتابة مخاطباتهم الرسمية وغير الرسمية بكثير من الإنجليزية، وقليل من الفرنسية، ويجرون محادثاتهم الهاتفية بما يشبه (السَّلَطَة اللغوية) بفتحة على السين واللام والطاء.. تجمع بين طياتها مفردات عربية، ولهجات محلية، واصطلاحات إنجليزية، وقليل من السواحيلية، والعامية المصرية إلخ.

ومن المؤسف أن تجد المواطن العربي في المشرق، والمغرب ينصاع للغة (الوافد علينا)، و(المستفيد من خيرات بلادنا)، و(اللاجئ والمقيم بين أظهرنا)، ويبدي نوعًا من التباهي المصطنع في حضرته ببراعته في (التحدث معه بإنجليزية ركيكة)، ويُظهر قليلاً من التعالي المبتدع في وجوده بتفوقه في (التحاور معه بفرنسية لقيطة).

وتعصرني الحسرة - أيُّ حسرة - عندما أطالع في مخاطبات المؤسسات الرسمية، وأجدُ (اللغة الإنجليزية) تخرج لي لسانها في كل وثيقة رسمية في (المشرق العربي)، وتلوِّح (اللغة الفرنسية) لي بخفتها وغنجها ودلالها وتكشف لي عن سوأتها في (المغرب العربي). بينما (اللغة العربية يتيمة) فقدت (عزوتها)، وتخلّى بنوها عن (مجدها)، وهتك الوافد الأجنبي (عرضها)، وصارت لغة الطبقات الدنيا (السوقة، والدهماء)، وتَمَّ إنزالها رغمًا عنها من (سِدْرتها النخبويّة) إلى (حفرتها الشعبوية).

ومازالت لغتنا العربية تنتقل من (دنيٍّ) إلى (أدنى)، و(تتقطع أوصالها)، و(تتصدّع هيبتها)، و(يتفتق رونقها)، و(ينزوي بهاؤها) شيئاً فشيئاً إلى أن يأتي حينٌ من الدهر فتقف شاكيةً بين يدي الرحمن (تطلب القصاص ممن ظلمها)، و(تتشبث برقبة من أهملها)، وسيكون حالنا - نحن أبناؤها المنتسبون زورا إليها - كما تحكيه الآية الكرية: {وَقَالَ الَّذِيْنَ اتَّبَعُوْا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوْا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيْهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِيْنَ مِنَ النَّارِ} (البقرة 167).

إنّ إعادة اللغة العربية إلى عرشها، وإزاحة تراب المحنة عن وجهها، وجلاء فنِّها، وإظهار سطوتها، وإعلاء كعبها على سائر اللغات يحتاج إلى جهود مخلصة من (الحاكم، والمحكوم)، و(الوطن، والمواطن)، و(الرئيس، والمرؤوس)، ولأننا (مجتمعات أبوية) نحتاج إلى قرار (سيادي، وسياسي) لفرض اللغة العربية السهلة المنبسطة، السهلة، الرحبة، لا المتقعِّرة المرفوضة، ولا العامية الممجوجة؛ بل لغة عربية يسيرة بسيطة بساطة حياتنا اليومية في (المخاطبات والمكاتبات، والكليات والمدارس، والهيئات، والمساجد، والأديرة والكنائس، والفضائيات، والمطاعم، والأفراح، والأتراح، والمشارب، والمآكل، والأسواق).

ولأنني من رافضي (نظرية المؤامرة، والمقامرة)، ومن عاشقي (المغامرة) فأدعو كل رئيس دائرة، والمديرين، والرؤساء في كل هيئة، ووزارة، ومؤسسة، وإدارة في (الوطن العربي الكبير) من (المحيط إلى الخليج) إلى (إصدار، وتوقيع تعميم إداري) يقضي بأن تكون (اللغة العربية) هي لغة المخاطبات الرسمية والهاتفية. وأتعهد لهم أن تأخذ السلطات العليا برأيهم، وتشدّ على أيديهم، وتدعم فكرتهم.

وستكون لغتنا العربية في أطيب حال إذا أخذت (الجامعات والمؤسسات التعليمية) بزمام المبادرة (بتعريب العلوم)، وتفعيل نشاط الترجمة لإثراء لغتنا العربية على نحو ما فعل أجدادنا في نهايات العصر الأموي وبداية العصر العباسي. ولكن كيف نقوم بهذا الجهد على نحو (فعّال ونَشِط)، والعائدون من البعثات، والدارسون في كل بلاد الدنيا الذين أنفقت عليهم (الدولة دم قلبها)، و(اقتطعت من قوت شعبها) كي ترسلهم شرقًا وغربًا لينهلوا من معين علمها، ثُمَّ يعودون إلى الوطن مع نهاية البعثة الدراسية بـ(خفي حنين) حاملين في محافظ نقودهم شهادة ورقية - نعم ورقية - وإذا ما أرادت إدارة البعثات في أيّ بلد عربي الاستيقاظ من النوم على هذه الحقيقة المُرّة؛ بل الكابوس المرعب عليها فقط أن تطلب من العائدين الدخول إلى صالة الاختبار يوميًا، والاعتكاف على ترجمة أطروحته للماجستير، أو الدكتوراه، وسيكتشف المسؤولون ساعتها أنّهم أضاعوا (وقت، وأموال الدولة) فيما لا طائل منه؛ بل سيصحو المبعوث نفسه على نتيجة مخجلة ملخصها في جملة واحدة: (أنا عاجز عن الفعل اللغوي).

إنّ الأمر جِدُّ خطير، والقضية قومية؛ بل (قضية أمن قومي)، ولسنا هنا في معرض الملاومة، وتبادل التُّهم، والتَّنصل من المسؤوليات فـ(كلنا في الهمِّ شرق)، و(الحكمة ضالة المؤمن)، و(ما لا يُدرك كله، لا يُترك كله) ومن ثَمَّ نطالب بإصدار (قرارات فوقية) تحظر استخدام اللغات الأجنبية في (المخاطبات الرسمية) حمايةً للغة العربية هذا أولاً، ثمَّ دراسة اقتراح مُقدّم من كاتب هذه السطور بضرورة إلزام الشركات الأجنبية ووكلاء استقدام العمالة بتدريس اللغة العربية (للقوى العاملة الوافدة) في أقسام ليلية بالمدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم لمدة سنة دراسية كاملة. وهذه التوصية تحقق أكثر من هدف وفي مقدمتها تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وفتح أبواب لتشغيل خريجي أقسام اللغة العربية وزيادة مدخولات وزارة التربية والتعليم، ثُمَّ محاولة انتقاء بعض توصيات الندوات، والمؤتمرات واعتمادها كأهداف مرحلية في برنامج حماية اللغة العربية، وتطبيقها تجريبياً تمهيدًا لإقرارها. ولذا أحيل المسؤولين قبل القراء إلى توصيات طاولة مستديرة بمركز الدراسات والبحوث وتوصلنا فيها إلى العديد من الحلول وكان من أهمها:

أولاً- تطبيق خطة لترجمة الإصدارات، والمواد السمعية، والبصرية العلمية، والأدبية لينفتح المجال لدينا في النشر الورقي، والإلكتروني لتعزيز المكتبة العربية بأحدث العلوم والمعلومات.

ثانيًا - وضع إستراتيجية قابلة للتنفيذ وفي إطار زمني محدد يشارك فيها المختصون لإنجاز خطة لتعريب العلوم والمناهج الدراسية.

ثالثًا - الاهتمام بالصحة اللغوية في المطبوعات، والوسائل الإعلانية، والإعلامية، والتجارية.

رابعًا - أن تكون مساقات اللغة العربية من المتطلبات الأساسية في جميع مؤسسات التعليم العالي.

خامسًا - دراسة إمكانية تعريب المساقات العلمية لدى مؤسسات التعليم العالي وذلك بهدف النهوض باللغة العربية.

سادسًا - تطبيق خطط وبرامج من شأنها النهوض باللغة العربية في مؤسساتنا المختلفة إيمانًا بأن تعليم اللغة العربية مسؤولية مشتركة بين الأسرة، والمؤسسات التعليمية، والثقافية، والدينية، والرياضية والاجتماعية.

سابعًا - تشجيع المبتعثين للخارج بالتأليف بالعربية في العلوم التي درسوها في الخارج ونقل أطروحاتهم للماجستير والدكتوراه إلى العربية.

ثامنًا - إنشاء روابط مهنية وأكاديمية للمعاهد، والكليات، والجامعات، وإلزام لوائحها الداخلية على تعريب العلوم، وترجمة، وتدريس المساقات باللغة الأم.

تاسعًا - إنشاء مراكز ثقافية عربية حول العالم وفي جميع القارات دعماً للثقافة العربية، ونشر الآداب والفنون العربية.

عاشرًا - تعزيز إسهام مؤسسات المجتمع من القطاعين العام، والخاص في النهوض باللغة العربية وذلك من خلال تعليم العمالة الوافدة غير الناطقين باللغة العربية لفترة لا تقل عن ستة أشهر كاملة وبذلك نكون قد ساهمنا في توفير فرص عمل في مجال اللغة العربية.

حادي عشر - أن تعمل المؤسسات التعليمية على زيادة حجم المحتوى المؤلف باللغة العربية على الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت).

ثاني عشر - الاهتمام بتعزيز وسائل تعليم اللغة في المراحل الأولى من التنشئة وذلك في المؤسسات التعليمية والثقافية المعنية بالطفل.

ثالث عشر - تقديم مضمون مساقات اللغة العربية في قالب جذاب يواكب اهتمامات الجيل الجديد من حيث المحتوى، والشكل الإخراجي.

تعليق عبر الفيس بوك