اغتراب الذات

أمل السعيدي

يسعى الإنسان إلى تحقيق مساحة خاصة من الاغتراب، يجد فيها نفسه بعيدًا عن الحياة المادية أو على الأقل بعيداً عن المعطيات التي تطرحها الظروف التي لا يختارها في كثير من الأحيان. لذلك يلجأ كل الناس إلى "شعرنة" الحياة بالطريقة التي يرونها مناسبة، فيؤمنون بضروب الروحانيات، أو بالفن. يحدثني أحد أصدقائي عن مشاهدته لأكثر من فيلم سينمائي في اليوم الواحد. بعد أن ضاق ذرعاً بحياته، وجد أفقاً جديداً، يجعل هذا الأفق الحياة بالنسبة له قماشة واحدة، تؤلف ثياباً يمكن للمرء أن يرتديها، أما فيما عدا ذلك فكما يقول المخرج العظيم فيلليني "تبدو الحياة مثل مشاهد متباينة جاءت عن طريق الصدفة". ومن هنا تأتي قيمة الإيمان، بما يمتلكه من قوة تدفع الإنسان للتماسك والمضي قدماً. لكن المجتمع يربط الإيمان في بعض الأحيان بشواهد بعينها، مهملاً فكرة الإيمان بالآخر، الإيمان بالذات، الإيمان بعمل ما وبجدواه.

وحتى نعود لموضوع اغتراب النفس، فأفلاطون قرر أن يطرد الشعراء من مدينته الفاضلة، مدعياً أن الناس تأخذ منهم الحكمة وهو ما ليس لهم، فكل ما يقدمونه هو العاطفة المتأججة، ولا عجب أن يخاف أفلاطون من انجرار الناس وراء عواطفهم التي يُعبر الشاعر عنها صراحة، فيما يقف الكثير منهم موقف عجز اللغة أمام ما يحس به، وإن فعلوا ذلك كم يبدو هذا مبرراً؟ إن أي ملاحظة لسياق الحياة التي نعيشها، وفحصاً بسيطاً للنفس الدفينة، تجعلنا ندرك ضعفنا ووجود هامش من دواخلنا مستعد تماماً لأن يتعلق بقشة بعيدة لمجرد أنها تعبر عنه. ويبقى السؤال قائما: ماذا لو أن الإنسان ظل في مواجهة مباشرة مع واقعه؟ أرى نتفاً من "غريب كامو" في الأرجاء هذه اللحظة، ولمن لا يعرف ما أعنيه بهذا الأخير، فإنها رواية عالمية لكاتب فرنسي ولد في الجزائر، تعتبر واحدة من أبرز الأعمال الوجودية، نرى فيها بطل القصة وقد وصل إلى درجة تكاد لا تصدق من البلادة وعدم الاهتمام، فحتى عند موت أمه نستطيع أن نرى أنه وإن بدا في اتصال مباشر مع هذه الواقعة إلا أنه بعيد عنها في ذات التوقيت، لا يهمه ما حصل ولا يرى الجدوى في أي شيء. يمشي متثاقلاً، متعباً في حياته، لا شيء يثير إهتمامه ولا دهشته، يرتكب هذا الأخير جريمة قتل، وعندما يحاكم عليها، يرد ببرود أن الشمس أعمت عينيه في تلك اللحظة. نعم اننا أمام هذا الواقع وانحسار الخيارات سنبدو غير منسجمين، اعتقد ان هذا يفسر علاقة البعض منا بهاتفه، وبمواقع التواصل الإجتماعي، يفسر حب البعض منا للسفر والقراءة وغيرها، انها جميعاً محاولات للتلاقي مع النفس. من المهم ان نفهم ذلك حتى نتمكن من اختيار الطريقة المناسبة للتواصل مع هذه النفس، بعيداً عن مداخل التطرف الديني وما شابهه. اخيراً، في نهاية رواية كامو، تدخل أشعة الشمس من نافذة السجن، نراه وللمرة الأولى مهتماً لأمر ما، عندما يحاول الإمساك بخيوط الشمس، هامساً أنها أهم ما في هذا العالم، أحلى ما فيه. هناك في تلك اللحظة لم يكن غريباً. لقد وجد ضالته.

تعليق عبر الفيس بوك