نحن وأمريكا

عبد النبي العكري

"فيك الخصام وأنت الخصم والحكم" ، المتنبي مخاطباً سيف الدولة، وبالفعل، فإنَّ علاقات العرب حكاماً ومحكومين مع الولايات المتحدة، هي كما وصفها الشاعر أبو الطيب المتنبي مخاطباً الخليفة سيف الدولة الحمداني.

وإذا ما راجعنا سلسلة التصريحات الرسمية الخليجية، والقصف الإعلامي في الفضائيات والصحافة والفضاء الإلكتروني ضد سياسة الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما، بل ومن سبقه من الرؤساء الأمريكيين، يدرك الشك الكبير والعتب المرير، من قبل ساستنا على السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية وخصوصاً الخليج، وتحديداً الاتفاق الإطاري التاريخي الذي توصلت إليه الولايات المتحدة ومعها الدول الخمس الكبرى مع إيران فيما يخص الملف النووي الإيراني، وحتمية توقيع الاتفاق النهائي في نهاية يونيو/ حزيران 2015، والآفاق الواسعة للتعاون ما بين إيران والغرب بقيادة الولايات المتحدة، ما سينعكس بالتأكيد في الترتيبات الإقليمية للخليج ومحيطه على مختلف الصعد العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية.

لكن هذه الحملات الإعلامية السلبية، لم تمنع وزراء الخارجية من المسارعة إلى باريس للاجتماع مع نظيرهم الأمريكي جون كيري، لوضع جدول أعمال قمة «كامب ديفيد» التي جمعت زعماء المنطقة مع الرئيس أوباما، وتلا ذلك حضور لقاء واشنطن رغم أن أوباما وضع مسبقاً إطار المفاوضات وسقف النتائج، وأسمع الرئيس الأمريكي زعماء المنطقة ما لا يرغبون، وهو أن عليهم أن يلتفتوا إلى شعوبهم، ويتصالحوا معها، وأن يلتفتوا إلى شبابهم وتطلعاته. كما كان جازماً بالتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، مع التأكيد على ضمان أمن دول الخليج، مما يعتبرونه مخاطر إيرانية. كما أن مكافحة الإرهاب والتطرف في مقدمة اهتمامات الولايات المتحدة ومقاربتها، وهي أنه لا يكفي مكافحة الحركات التكفيرية أمنيّاً، بل يجب استئصالها فكريّاً، وضمان عدم وجود حواضن لأفكارها.

في موازاة ذلك، فإن النخب الخليجية بمن فيهم من يعتبرون معارضين للأنظمة الخليجية أو الناقدين الشديدين لها، ما انفكوا في كيل الذم والقدح للسياسة الأمريكية، وتحميلها مسؤولية استبداد الأنظمة ومصادرتها للحريات، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، وبالطبع سياساتها في المحيط العربي بما في ذلك الحرب في العراق وسوريا، وما يعتبرونه دعماً خفياً للحركات التكفيرية على امتداد الوطن العربي.

لكن هذه النخب ذاتها تسارع إلى الولايات المتحدة والإدارة الأمريكية، والكونغرس والمنظمات الحقوقية والرأي العام، تشكو ظلامات الأنظمة وتطالب الولايات المتحدة بالتدخل للضغط على حلفائها لكي تغيّر نهجها، أو على الأقل، للحد من اضطهادها. والسفير الأمريكي في كل دولة خليجية، هو الممثل للولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك، فهو أيضاً مثل سيف الدولة، فهو الخصم والحكم. كبار المسؤولين يستقبلونه، والمعارضون يسعون إلى لقائه، ومن يهاجمونه من الموالين للسلطة والمزايدين عليها، يتلهفون للقائه، وهو بالطبع يستفتى ويفتي في مختلف الشؤون المحلية، ولا ضير، فهناك اتفاقيات متشعبة ما بين الولايات المتحدة ودولنا في مختلف المجالات العسكرية والأمنية والقضائية والبرلمانية.

دول المنطقة لا تجد حرجاً في استضافة القواعد الأمريكية، والقوات الأمريكية هي الضامن لأمن المنطقة، والتسليح والتدريب العسكري يأتي أساساً من أمريكا، وليس هناك سعيٌ للتقليل من ذلك بل العكس، إذ تطلب من الولايات المتحدة معاهدة لضمان أمنها وليس اتفاقيات فقط، وهو ما لا تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه؛ لأنها تقتصر في ذلك الأنظمة المماثلة لها، مثل دول حلف الأطلسي واليابان وكوريا الجنوبية؛ لذلك هناك مساعٍ للتوصل إلى اتفاقيات لاعتبار دول المنطقة حلفاء إستراتيجيين للولايات المتحدة، ما يعزّز العلاقات العسكرية والأمنية بين الطرفين.

في المقابل، ليس في أوساط المعارضات الخليجية والنخب الخليجية المعارضة أو المنتقدة للولايات المتحدة من يطالب بتصفية الوجود العسكري الأمريكي أو حتى التخفيف منه، بل إنّ البعض يعتبره إحدى وسائل الضغط الأمريكي على الأنظمة الخليجية للحد مما يعتبرونه شططاً، سواء في سياساتها الخارجية أو الداخلية بما في ذلك تعاملها مع شعوبها.

الآن اتضحت الصورة بعد كامب ديفيد، فقد اقتنع الجميع بصواب الإستراتيجية الأمريكية بحل تفاوضي نووي مع إيران يقطع الطريق على احتمال تحوّله إلى برنامج نووي عسكري، ويشجّع إيران، من خلال رفع العقوبات، على الحد من تدخلاتها في الخليج والمحيط الإقليمي، والاندماج أكثر في المجتمع الدولي. وفي الوقت ذاته طمأنت الولايات المتحدة الدول الحليفة بأنها جاهزة للخيار العسكري في حالة حدوث تهديدات عسكرية وأمنية إيرانية لها.

وبالنسبة إلى القضية الفلسطينية، جرى تكرار الكليشيه المعروف: «حل الدولتين»، وفي هذه الحالة الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال والدولة الإسرائيلية المحتلة. كذلك جرى الاتفاق على ضرورة مكافحة الإرهاب والحركات التكفيرية والمتطرفة وفي مقدمتها «داعش»، وكذلك التحرك سريعاً من أجل عملية سياسية في اليمن مع تأكيد المواقف السابقة تجاه العراق وسوريا باستبعاد الرئيس بشار الأسد من الحل السياسي التوافقي الذي يشمل النظام والمعارضة.

كما لخص الرئيس أوباما الموقف والهدف من التعاون الأمني بين أمريكا ودول مجلس التعاون بأنّه ليس إدامة أية مواجهة طويلة الأمد مع إيران أو تهميش إيران، إذاً فعلى إيران ودول مجلس التعاون أن تدخل في حوار بناء من أجل التعاون وليس المواجهة، وهذا سيفتح الطريق لحل العديد من الصراعات والنزاعات الإقليمية الحالية، وسيحظى ذلك برعاية أمريكا ودعم المجتمع الدولي. لكن الغريب هو أن البيان المشترك وتصريحات الرئيس أوباما لم تتطرق إلى الإصلاحات الداخلية الخليجية المطلوبة، وبالتأكيد جرى بحثها.

الخلاصة هي أن دولنا حصلت على التطمينات الأمريكية بضمان أمنها الخارجي وسلامة أراضيها، لكن ليس إلى حد توقيع معاهدة ما بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون، فذلك محصور بالأنظمة الديمقراطية الغربية الحليفة. وحتى الدرع الصاروخي الذي اقترحت أمريكا إقامته لدول المنطقة، لمواجهة أية تهديدات صاروخية إيرانية، لم يعلن، وقد يكون ذلك للحاجة إلى مزيد من الدراسات بين الطرفين.

قبل فترة، كتبت مقالاً ناشدت فيه الأنظمة الخليجية الدخول فوراً في حوارات مع شعوبها ونخبها لتدشين برنامج إصلاح سياسي شامل تشترك فيه شعوبها في إدارة شؤونها، بدلاً من انتظار التوجيهات والضغوطات الأمريكية، لكنك كأنك تؤذن في مالطا. فهل تعيد الأنظمة الخليجية بعد كامب ديفيد التفكير العميق في مقاربتها مع شعوبها ومع جارتها إيران؟ سؤال مفتوح على كل الاحتمالات، وإن كانت التطورات على الأرض لا توحي بذلك.

تعليق عبر الفيس بوك