العرب من عصر الجاهلية إلى كامب ديفيد

د . صالح بن هاشل المسكري

انتهت القمة الأمريكية الخليجية التي دعا إليها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في منتجع كامب ديفيد "الشهير" يومي الأربعاء والخميس 13،14 مايو 2015م، هذه القمة ذكرتني بالرحلة التاريخية التي قام بها الشاعر الجاهلي امرؤ القيس لقيصر الروم يستجير به ويستجديه لاستعادة ملك آبائه ويستنصره على قومه، وفي الحقيقة لا يلام امرؤ القيس على ما فعله لأنّه قبل أن يُفكر في اللجوء إلى القيصر طاف بالقبائل العربية ولم ينصره أحد منها، عدا رجل يهودي يدعى السموءل (الشاعر المعروف) الذي نصره بل وضحى بابنه ليحفظ أمانات ودروع امرؤ القيس، ذهب الملك العربي الضليل للقيصر واستقبله بما يليق بمقام الملوك وقربه إليه، وعاد وقد أعطاه القيصر ما يحتاج إليه من جند ومال وعتاد ليقتل أهله وأبناء عمومته وليُشبع غرور الانتقام في نفسه، ثم جاء عربي آخر من الوشاة مقرب أيضاً لدى القيصر "الذي لا يرى إلا المصالح الدائمة" ليوغر قلبه على امرؤ القيس فيدبّر القيصر مؤامرة دنيئة ويقتله ويتخلص منه.

هكذا هو التاريخ العربي منذ 1500 عام لم يتغير في مشهده شيء، ولا يزال الحُكام العرب يتسابقون على عتبات القوى الكبرى كلما شعروا بالخطر على بلدانهم وحكمهم ويقدموا لأجل ذلك الصلات والقربات ويضحوا بما يملكون وما لا يملكون للحفاظ على ممالكهم وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه، حتى معركة ذي قار التي يعتبرها العرب من أيامهم الجاهلية، لم تخلو من الخيانات العربية فقد حاربت قبائل تغلب وقضاعة وإياد وغيرها مع الفرس ضد أبناء العمومة من قبائل بكر بن وائل وحلفائهم، أي أنّ العرب قاتلوا بعضهم بعضًا وانتصروا على بعضهم بعضًا ولم ينتصروا على الفرس كما يقول الأصفهاني في كتاب الأغاني.

تلك المقدمة التاريخية تحتمل الصواب فالعرب أيضاً لم يحسنوا كتابة التاريخ وما وصلنا من مخطوطات المؤرخين وكتبهم فيه الكثير من المتناقضات والانتماءات والولاءات على القاعدة العربية الشهيرة "التاريخ إنما يكتبه المنتصرون" وليس المنصفون، وللقارئ الكريم أن ينظر إلى كتب القرطبي والأندلسي والطبري وابن خلّكان وغيرها ليرى العجب العجاب في تناقض أقوالهم واختلاف رواياتهم.

لم يتغير العرب في الحقيقة منذ ذلك العهد، بل ظلوا أوفياء لنهج أسلافهم من غساسنة الروم ومناذرة الفرس، واستمروا في إشعال الفتن والحروب بالوكالة بين أبناء العمومة نيابة عن القوى العظمى في ذلك الزمان الدولة البيزنطية الرومانية والدولة الساسانية الفارسية، وها هم يُعيدون التاريخ ويواصلون التشرذم والانقسام، قسم يوالي أمريكا الرومانية وقسم آخر يدين بالولاء والطاعة لإيران الفارسية وأمريكا وإيران تجلسان الند للند لتبحثا وتنظرا في أمر العرب، والاتفاق على كيفية إدارة الشرق الأوسط الجديد، فأمريكا من ناحية استنزفت أغلب مصالحها مع العرب ونجحت في تنفيذ المخطط الصهيوني لتدمير "الوطن العربي" وتفكيكه وخلفت فيه بؤر الفتن والأحقاد المذهبية والطائفية التي ستستمر في صب الزيت عليها كلما خبت، وهي لا تزال تستمد الرأي والمشورة من جهابذة الفكر الصهيوني أمثال هنري كيسنجر وآخرين الذين عاشوا فترة التحالف الأمريكي الإيراني إلى أن جاءت الثورة في إيران عام 1979م وحلّت محل الإمبراطورية الإيرانية التاريخية وطردت آخر ملوكها الشاهنشاه محمد رضا بهلوي.

وإيران الجديدة في المقابل لها طموحات واسعة في استعادة الهيمنة الفارسية التاريخية على المنطقة، وهي طموحات مشروعة في ظل التحولات السياسية والتغيرات الدولية والانهيار التام للبلدان العربية التي انتهت إلى أنها لا تملك شيئاً يشفع لها أمام قياصرة العصر الحديث الأمريكان، حتى النفط الذي كانوا يعوّلون عليه أوجد له الأمريكان بديلاً وهو النفط الصخري الذي تملك أمريكا أفضل تقنياته، إضافة إلى أن إيران "الحليف المثالي" تملك الكثير من البترول والصناعات البترولية، ولديها قوة صناعية واقتصادية يُعتدّ بها، مع كثافة سكانية تتجاوز الثمانين مليون نسمة منتشرة حول العالم، بل إن لإيران لوبي قوي داخل المجتمع الأمريكي "ناياك" يقدم الدعم والمساندة والتقارير العلمية المتقدمة للدولة الإيرانية وهناك مستشارة للأمن القومي الأمريكي من أصول إيرانية تدعى سحر نوروز زاده ومستشارة أخرى في البيت الأبيض ذات صلة وثيقة بالمجلس الوطني للإيرانيين الأمريكيين، ولا ننسى أنّ وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ذو الأصول اليهودية تربطه علاقة مصاهرة مع الإيرانيين بعد أن تزوج الطبيب بهروز ناده إيراني الأصل بفانيسا ابنة وزير الخارجية كيري وكان لهذا أثر على توجهات الوزير الأمريكي تجسّد في إصراره على عدم ضرب المنشآت الإيرانية ومواصلته للمفاوضات الشاقة في الملف النووي الإيراني إلى أن توصل إلى اتفاق نووي مع إيران مدّته عشر سنوات، وهناك اختراقات إيرانية أخرى مؤثرة في الإدارة الأمريكية، كل هذه المقومات التي تدعم القرار السياسي الإيراني غير موجودة لدى العرب المفككين.

وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهتها إيران في المحادثات النووية مع مجموعة 5+1، إلا أنها استطاعت في نهاية المطاف أن تحقق مكاسب مهمة يكفي أن أذكر منها على سبيل المثال تجاوزها للإرادة الأمريكية والرغبة الإسرائيلية في تفكيك كل المفاعلات النووية الإيرانية واحتفاظها بأهم المنشآت النووية في فردو، ونتانز، وآراك، وهذا يعني اعترافاً أمريكياً وغربياً ببقاء البرنامج النووي الإيراني ولو تحت الملاحظة، وأن هذا البرنامج أصبح متقدماً لدرجة أنّه من المستحيل التراجع عنه مهما كلف إيران من تضحيات "وهنا أظن أنّ إيران استفادت كثيرًا من سقوط الدولة العراقية وضمت إلى منشآتها عددًا ليس قليلاً من العُلماء العراقيين أصحاب الخبرة في النشاط النووي بل أذهب أبعد من هذا وأقول بأنّ إيران عملت على تفكيك المنشآت والمفاعلات النووية العراقية المتقدمة ونقلتها إلى طهران بعدما أحكمت قبضتها على البلد العربي والعدو التاريخي من بابه إلى محرابه "ومن المكاسب المهمة للاتفاق أيضًا رفع العقوبات عن نشاطات البنك المركزي الإيراني، وعن مبيعات إيران من النفط الخام وتحرير الأموال الإيرانية المجمدة في المصارف العالمية التي تقدر بأكثر من 80 مليار دولار، وسوف يعزز هذا بالتأكيد عودة إيران للاقتصاد العالمي والتأثير المُباشر لها على مختلف الملفات، وبذلك فإنّ هذا الاتفاق سيشكل نقلة مهمة للسياسة الإيرانية وللتأثير الإيراني على الساحة الدولية وسيكون بوابة إيران في تقرير مصير العديد من الأنشطة والقضايا الأخرى.

ثم إنّ إيران ليست الرابح الوحيد من الاتفاق النووي ورفع العقوبات الاقتصادية، فالولايات المتحدة الأمريكية رابحة أيضاً من هذا الاتفاق، لأنّ استمرار العقوبات لثلاثة عقود متصلة أضرّ أيضاً بالاقتصاد الأمريكي جرّاء توقف التبادل التجاري والاستثمارات بين الدولتين وفرص العمل وما تكبدته الإدارة الأمريكية من فروقات ارتفاع أسعار النفط نتيجة فرض العقوبات على إيران، وأمريكا دولة مؤسسات تحكمها المصالح ولن تسمح المؤسسات الأمريكية لا للبيت الأبيض ولا لغيره بممارسة سياسة العداء الدائم الذي يضر بالمصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية مع أية دولة في العالم، ثم إنّ أمريكا استُنزفت كثيرا في مشاكل الشرق الأوسط وتبحث لها عن خروج آمن من المستنقع الذي تورطت فيه لتتفرغ للمواجهات الأهم في شرق آسيا وبالأخص مع التنين الصيني الذي أصبح يهدد المصالح الأمريكية بشكل مُباشر، وإيران وجهة أمريكا المناسبة في الشرق الأوسط للمرحلة القادمة بلا نقاش.

أما أهلنا وإخوتنا في الخليج العربي الذين تفجر النفط تحت أقدامهم منذ خمسين عاماً فلم يقدموا لأنفسهم ولا لأجيالهم القادمة ما يشفع لهم بالبقاء والتفوق والضغط على القرار السياسي العالمي، وفي كامب ديفيد الأخيرة ذهب عرب الخليج للإدارة الأمريكية بسقف عالٍ من المطالب والطموح، لكنهم وحسب البيان الصادر عن القمة لم يحققوا شيئاً استثنائياً عدا اقتناعهم بأهمية الاتفاق النووي مع إيران لأنه يحقق مصلحة أمريكية عليا، وهو لا يؤثر على مستوى العلاقات بين الجانبين، ولم يتمكن الخليجيون من إقناع أمريكا بالتوقيع على معاهدة دفاعية كتلك التي وقعتها أمريكا مع اليابان لأنّ هذا يتطلب موافقة الكونجرس ولن يسمح اللوبي اليهودي بمعاهدة كهذه خاصة وأن إسرائيل نفسها لا تتمتع بهذه الميزة، ولم يتمكن الخليجيون من الحصول على اتفاق أمني أو ضمانات أمنية مكتوبة كما هو الحال مع كوريا الجنوبية، ولا على صفة الحليف الإستراتيجي خارج الأطلسي لأنّ هناك دولاً سبق لها أن حصلت رسمياً على هذه الصفة كالبحرين عام 2002، والكويت عام 2004، ولم تتمكن دول الخليج من إقناع الإدارة الأمريكية بشراء أسلحة متطورة كطائرة F 35، أو منظومة صواريخ ثاد المتطورة، وعادوا إلى بلدانهم بتطمينات فضفاضة لا يملك الرئيس الأمريكي قرار تنفيذها مستقبلاً لأنّه راحل بعد أشهر، وقد استبق أوباما القمة بتصريح لصحيفة نيويورك تايمز قال فيه، إنّ العرب يواجهون تهديدات خارجية حقيقية، لكن لديهم أيضاً بعض التهديدات الداخلية المتمثلة في سكان مقصيّين في بعض الحالات وشباب عاطلين عن العمل وأيديولوجيات هدامة وإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالم الشباب، وأن أكبر التهديدات التي تواجه العرب السنة "كما وصفهم" قد لا تأتي من غزو إيراني بل من السخط الشعبي داخل بلدانهم.

هذه النظرة للأسف تمثل التقييم الحقيقي للعرب في دول الخليج فهم في نظر الحليف التقليدي لا يزالون يعيشون في عصور الجاهلية، وفكرهم السياسي لم يتطور كثيرًا، رغم ما وضعوه في بلدانهم من دساتير وما أقروه من سلطات وما شيدوه من مؤسسات عامة بهدف تزيين الواجهة الأمامية لدولهم كما وصفت ذلك قناة تلفزيونية أمريكية، والحكام في بعض الدول لا يزالون يتصرفون بعقلية الراعي والرعية ويبسطون نفوذهم وقرارهم على كل شيء بدءًا من توزيع الهبات والمكرمات على الموالين وإبرام الصفقات والاتفاقيات وحتى قرار إعلان الحروب، ولا يستطيع المواطن أن يُعقب على أمرهم، بل لا توجد جهة في الدولة تستطيع مراجعتهم ومحاسبتهم لأنّ الحكام "بنص الدستور" محصنون ومبرؤون من كل عيب وهذه مصيبة كبرى في الحقيقة، ولا توجد ممارسة سياسية حقيقية للمواطنين دون وصاية ورقابة من الدولة، وليس من حق المواطن أن يتدخل في الملفات السياسية والعسكرية والأمنية ولا حتى في السياسة المالية والإعلامية لأنّها من المسائل السيادية التي لا تعنيه وإلا لَقي ما لا يُرضيه، وبالتالي بأيّ وجهٍ يستطيع الإنسان في بلاد العرب عمومًا أن يطمئن على استقراره وعلى مستقبل أبنائه، أو أن يقف أمام الإنسان الأمريكي أو الغربي أو حتى الإيراني الذي يتمتع بقدر ما من الديمقراطية والحرية السياسية، ليناقشه فيما يُريد وما لا يُريد.

Sh-almaskry5@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك