نقد الحال الراهن (17) السطحيّة

د. صالح الفهدي

استأذنته لنصيحةٍ بعد أن شاهدتهُ وهو يقصفُ الصلاةَ قصفاً..! فلا استقامَ لها ركنٌ، ولا استقرّ لها في نفسهِ سكينةٌ وطمأنينة..! سألته: أتقبلُ النصيحة؟ قال: نعم. أضفتُ سائلاً: هل الصلاةُ عندك عبادةٌ أم عادة؟ قال: بل عبادة، قلتُ له: فماذا تقولُ في أدائك للصلاة؟ قال: أنا مستعجلٌ، وقد طلبتُ من أهلي أن يسرعوا كذلك في التسوّق..! قلتُ له: كيف تُقدّمُ غير المُهم على الأهم؟! الصلاةُ هي رأسُ مالك في الحياةِ لأنّها صلتكُ بالله فإن طابت هذه الصلة طابت العلاقة مع الله، وإن انقطعت فقدت العلاقة مع الله..! في الحديث الشريف"لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ "

تخيّرتُ هذا المثلَ لأبدأ به حديثي عن السطحية التي أصبحت سمةَ العيشِ لكثيرين في مجتمعاتنا، فإذا كان هذا حالُ العبادة التي هي جوهر الحياة الإنسانية على ظهر الأرضِ، وهدف خلقه فكيفَ يكون حال بقية شؤون الحياة..؟!

أصبحت السطحية طابعاً لحياةِ الكثيرين بمعنى أنّهم لا يعيشون معاني الحياة العميقة، ولا يستشعرون نكهتها، ولا يتلذذون طعمها، وازداد ذلك مع سرعة رتم الحياةِ، وتسارع نبضاتها المعيشية، مصاحبةً بالقلقِ والتوتر نظراً لأنّ الإنسان أصبحَ مشتتاً تتنازعه الكثيرُ من المشاغل التي إما أن تفرضَ عليه التعاطي معها، أو أن يقحمُ نفسه في مناخاتها..!

آثر الكثيرون أن يتعاملوا مع البشرِ والأفكار والأشياء بسطحية لأنّهم لا يُريدون الغوص في الأعماق، إنّما يُريدون الشرب من الماء المنسكبِ من الساقيةِ وإن كان ملوّثاً بالشوائب ولا ينزفون من عمق البئر..! أمّا تعاملهم مع البشر فكثيرٌ من البيوت قد أصبحَت العلاقات فيها بين الأزواجِ سطحيّة..! علاقةٌ لا توطّدها العواطف القلبية الرقيقة، ولا تعمّقها المشاعر الإنسانية الشفيفة. علاقة أوامرٌ ونواهٍ، وروتينية جافة، هي أقربُ ما تكون إلى المعايشةِ وأبعد ما تكون من الارتقاءِ نحو سُّمو العلاقةِ من أجلِ الشعورِ بقيمتها، والإحساسِ بروعة التقاربِ الإنساني عاطفياً، والفهم العميق لمفهومِ الزواجِ والأسرة وأثره على السعادة الإنسانية. والحالُ نفسه ينطبقُ على العلاقات مع الأبناء إذ هي الأُخرى سطحيّةً لا تغورُ في فهم النفسيات، ولا تحدثُ شيئاً من التقارب العاطفي لهذا صار شائعاً ما يسمى بـ"الفراغ العاطفي"..!

أمّا سطحية الأفكار فتلك التي لا تُريد الغوص في المعاني العميقة للرؤى والقضايا وإنِّما تريدُ "نشرةَ الأخبار" و"رؤوس الأقلام" ولا تكلّف نفسها عناء البحثِ عن التفاصيل التاريخية، والنظريات العلمية، والبُنى الفكرية، شاع الاختزال في الفكر حتى أصبح الـ"140" حرفاً هو العدد الذي تقاسُ به عمق الأفكار، وقيمةُ الطرح..! وأخشى أن يلغى ذلك العدد من الحروف ليتحول التغريدTweeting بالحروف إلى صفير بالصوت فقطWhistling ..!

يقول الكاتب ياسر حارب في مقاله (نزعة السطحية): "لدينا مشكلة في العقل العربي عند استيعاب الحياة ومفاهيمها. مشكلة هذا العقل أنّه عقلٌ متصفِّح، يظن أنّه يعرف الحقيقة كاملة فتوقف عن البحث عنها، ولهذا فإنّ شغف المعرفة وآليات البحث ليست من أدبياته. وأعني بالمتصفح أي اللامبالي بالعمق، واللامدرك لمعاني الأشياء، واللامتأوّلٍ لفحوى الحقائق". وسطحية الأفكار تكمنُ في المقولة السوقيّة التي يتخذها بعضُ ربابنة الإعلام حجّةً زائفة وهي"ما يُريده الجمهور" أي أنّه يُريد سطحية الأفكار، وهي حجّةٌ اخترعوها لكي يسوّقوا سطحية الأفكار ويصنعوا وعياً سطحياً، مزيّفاً..!

أمّا سطحية الأشياء فذلك الهوس الاستهلاكي الذي يتملّك بعض النّاس فيشترون دون درايةٍ بجدوى الشيءِ، ودون علمٍ بأثرهِ عليهم، فهم مخدرون يقودهم الوهم المصطنع الذي أثارته شهوةُ الاستهلاكِ، ونزعة التملّك فيهم، لهذا يكثرُ التكديسُ والشراء غير المبرر ولغير فائدة..!

لقد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في خلق رغبة جامحة للشهرة، فتربّع بعض "السطحيين" قوائم الأعلى متابعةً رغمَ أنّهم يفتقدون إلى أدنى معايير العُمق الفكري مما يقومون به من أعمال..! المقياس السطحي فيما يُسمى بالإعلام البديل هو الأكثر مشاركةً عبر الصورة أو التغريدات أو المقطع المرئي، فظهر نمط من الشباب والفتيات ممن يروِّجونَ لسطحيّتهم دون أن يكون لهم قضايا ذات قيمة. في المقابل فإنّ أصحاب الفكر النفيس، والمواهب الخلاّقة لا يحظون بالقدر نفسه من المتابعة والشهرة الزائفة..!.

وأصبحت السطحية واضحة في الرِّياء الذي يتخلّقُ به بعض "روّاد" التواصل الاجتماعي حيث لا يكون همّهم الفعالية التي يحضرونها، ولا العمل التطوعي الذي يشاركون فيه، وإنّما اقتناصُ صورة لأجل رفع رصيد المتابعين..! هذه الإشارة لا يقصدُ منها التعميم فهناك ممن أسهم بدور رائد وجليّ في خدمة قضايا مجتمعه ولم يكن همّهُ الشهرة من وراء ذلك ولا الترويج لنفسه وهؤلاءِ هم من يستحق أن يطلق عليهم "روّاد التواصل الاجتماعي" وإن قلّت مشاركاتهم لكن أثرها عميق.

السطحية أصبحت ملمح بعض الشباب الذين لا يهمّهم الغياب الذهني والانشغال عن البشر الواقعيين لكي يظهروا في العالم الافتراضي، وهناك يفتقدُ هؤلاء إلى الحس الإنساني العالي بالآخرين، وعلى مدار الوقت ستختفي منهم القدرة على التواصل العاطفي مع من يتعاملون معهم.

وكمثالٍ على أثر السطحية النفسية كتبت صحيفة لوس أنجلوس عن تجربة إحدى المدارس في أمريكا باصطحابهم لعدد 50 طالباً بعيداً عن الأجهزة الإلكترونية (الكمبيوتر، التابلت والهواتف الخلوية) وأجروا لهم اختباراً فور وصولهم المخيّم بمشاهدة 48 صورة واختباراً آخر بمشاهدة مقطع مرئي مع كتمان الصوت لتقييم معنى لغة الجسد، فكان متوسط الأخطاء 12.24 ثم أعادوا الاختبارين بعد خمسة أيام من التفاعل المُباشر بين الطلاب فكان متوسط الأخطاء 9.81..! وهو ما يعني تحسِّن معرفة الطلاب بمعاني لغة الجسد بسبب التفاعل الاجتماعي المباشر، وهو ما يعني أنّه كلما زاد الإنسان تقرباً وتفاعلاً زاد عمقاً في فهم نفسيات الطرف الآخر.

وللأسف الشديد فإنّ الكثير من وسائل الإعلام سوّقت للسطحية من خلال برامج "تلفزيون الواقع Reality Show" وغيرها على سبيل المثال"آرابآيدول Arab Idol" و"بيج براذور Big Brother" وستار أكاديميStar Academy" واستنساخ برنامج "العرض اليوميThe daily show" السخيفة، تلقفتها وسائل إعلام مجتمعاتنا العربية مقلّدةً في الطريق ذاته لإنتاج السطحيّة الفكرية التي لا تنتجُ إلاّ مجتمعاً سطحياً، لا يمتلكُ إلا عقلية سطحيّة..!!

أمّا اهتمامات الكثير من الشبابِ فأغلبها سطحيّةً، يجسِّدها الإغراق شبه الكامل في عالم كرةِ القدمِ حتى أضمرَ ثقافتهم، وأضعفَ نظراتهم للحياة..! يقول أحد الشباب في رسالة بعثها عبر الواتس آب وهو يعلّق على مباراة بين ناديين أوروبيين:" أنا مشارك في أكثر من (٢١) مجموعة خليجية وعربية وما حدث بالأمس كان شيئاً غريباً لا يجب السكوت عليه. حدثت مشادّات كلامية وشجارات وسبٌ بين أعضاء المجموعات، ناهيك عن تصميم الصور بالآلاف وإرسالها في المجموعة..! .للأسف اليوم الحملات الجديدة في العالم العربي هي المباريات فعلا، فقط هزمتنا وبجدارة.ومن باب العلم فقط فقد اطلعت بالأمس بعد المباراة على موقع أوروبي وهذا الموقع في كل ساعة ينزل تقريبًا ألف صورة حديثة ولكن المفاجأة أنني لم أجد أية صورة أو تصميم لمباراة (الناديين)" انتهى كلامه.

هذا نموذج من إفراز ثقافة السطحية التي تشيع في مجتمعاتنا، والمراكزُ والمقاهي تعجُّ بالسطحيين من الشباب الذين يزهقون أوقاتهم في الفراغ المدقع، بل يدفنون أعمارهم في الخواءِ اللامتناهي من الأحلامِ الوردية، والكلام المكرور الباهت..! هذه الثقافة تلمّستها في كثيرٍ من الشباب السطحي في الجامعات والكليات والمدارس وذلك في مستوى التفكيرِ، والكلامِ، والكتابات..!

إنّ المجتمعات السطحية تعيشُ على النكتِ والثرثرةِ والإشاعةِ والوشاية..! أما المجتمعات العميقة فهي التي تعيشُ قضايا التنمية والتطوير والتقدم والتخطيط والعمل المتواصل. العالم يصغُر كل يومٍ فتضيقُ معه العقول، وتسطّحُ فيه الثقافات حتى يصبح الإنسانُ طافياً في السطحِ دون جذور، لا يُعرف التاريخ ولا الجذور، ولا القيمة الحقيقة له كإنسان..! هذا ما تُريد أن تجعله العولمة: إنساناً سطحياً مهلهلاً تتملكه نزعة شرهة للاستهلاك، وكأنّما هو روبوتٌ آلي في جلدِ بشر..!! إنها السطحيّة ترفعنا كل يومٍ إلى السطحِ مبتعدين عن الجذور شيئاً فشيئاً، مذعنين دون اعتراض، إلى أن ننتبهَ من غفلتنا فنستيقظ على هذا الطّفو اليومي بأن نتخلى عن السطحيةِ بإدراك قيمتنا كبشر وقيمة اللحظات التي نعيشها ومعنى الإنجازات الأصيلة التي علينا أن نقوم بها لصالح الإنسانية.

تعليق عبر الفيس بوك