نقد الحال الراهن (13) الدّعة

د. صالح الفهدي

حين قال المحاضر: إذا لم يعمل الياباني فإنه يقدم على الانتحار، مال الجالسُ إلى جانبي هامسًا في أذني باسما: ونحن إن لم نحصل على إجازة ننتحر..! وفي مناسبة أخرى أباح لي آخر بسر ثمين حيث قال أنه يحب العمل الحكومي لأنه حافل بالإجازات، وأنه يعشقُ الإجازات..! وكأنّ لسان حاله ينطقُ عن الكثرة الغالبة من الشباب حتى أصبحت الإجازات بالنسبة لمجتمعاتنا أعيادًا، وتوقعات الأمطار أخبارًا مفرحة للصغار من أجل "الراحة" من عناء الدراسة..! فما أكثر ما تتردّد كلمة "تعب" في مجتمعاتنا على ألسن العامّة، أو في الأغاني أو القصائد، وفي مقابلها ما أكثر ما نسمع "أريد أن أرتاح".

في استضافة لي بإحدى الجامعات قلت: إنه لا توجد قمّة للنجاح يسترخي فيها الإنسان الناجح، وإنّما هي محطّات متتابعة، ما إن يصل فيها الإنسان حتى يشمّر عن ساعديه ليواصل الطريق لتحقيق إنجاز آخر.. وهكذا تصبحُ الحياةُ سلسلةُ متصلة من الإنجازات.

وإذا كانت الحياةُ مزيجًا من العمل والترويح لقوله صلى الله عليه وسلم :" روّحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة، فإنّ القلوب إذا كلّت عميت" فإن جعلها على منوال واحد هو منوال الراحة لن يحقق للإنسان صاحب الهمم العليّة مطمحه من الحياة، ومع أن بعض أصحاب العزائم الفتية يريدُ أن يواصل الليل والنهار وهو يعملُ لولا أنّ للجسد نصيبًا من الراحة. ومع ذلك فإن تحقيق التوازن بين حاجات الإنسان المختلفة (روحية وعقلية وبدنية) أمر لا غنى عنه حتى لا يسود الملل في النفس.

إن ثقافة "حب الراحة" تفشّت في مجتمعاتنا، فلا يُعرفُ لها وصف، ولا يُدرك لها بعد.. ماذا تعني الراحة؟ أهي راحةُ البال من الهموم والطمأنينة أم الانبساطُ والإنشراح.. هذه جميعها راحة حميدة للنفس، لكن الراحة المذمومة هي الإفراط في الكسل، والتمادي في الخمود، والتراخي في الفتور حتى وصفت الأمّةُ بأنها أمّة دعة وخمول لا تفكّر إلا في الإجازات وليتها تعاني من الضغوطات العمليّة الهائلة..! بل هي تعاني من كثرة أوقات الفراغ.. والنبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".

تسمع المتقاعد وهو يقول: لقد أدّيتُ ما عليّ من واجب وآن لي أن أرتاح..! وليس عندي من تفسير اجتماعي للراحة التي يقصدها سوى أن يضع رجلا على رجل في كرسي على الشارع وهو يطالعُ المارة ..! أو أن يعيش فراغًا قاتلا ينحلُ جسده، ويذيب قواه..!

ويكتفي خرّيجُو الجامعات من مهندسين ومعلمين وأقرانهم بما تحصّلوا عليه من معلومات تجري عليها سنّة التقادم فلا يحدّثونها ولا يجددونها لأنهم استسلموا للراحة، والدّعة والسكون، وقنعوا بما أوتوا من شهادة مؤطرة تزيّن جدران مجلسهم، فإن أنت تقصّيت لهم سببا مباشرا وجدت أن نفوسهم قد تشرّبت ثقافة "حب الراحة"، وأنّهم زعموا أنهم قد وصلوا القمّة في الإنجاز، وكأنّما العلم منجز متكامل، أو منتج مُنزّل..!

تسمعُ الفتى اليانع وهو لم يدخل بعد معترك الحياة، ولم يصب من تجاربها شيئا يردد كلمة "تعب"و"إرهاق" ولا تعلمُ ما الذي أنجزهُ حتى يتعب فيرتاح ليجدد نشاط الجسد فيعاود العمل..! إلا أن تعلم بأنّ مصدر "تعبه" و"إرهاقه" ليس العمل وإنّما السهرُ والكسل ..!

لا تحسبنّ المجد تمرا أنت تأكله .. لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

لقد أُسيء فهم الراحة حتى أصحبت في مجتمعاتنا مرادفة للدّعة والخمول والكسل، وهي في الحقيقة نقيضُ ذلك، فالعملُ مع الاستمتاع راحة، والجهدُ مع الشغف انشراح، والكفاح مع النشوة متعة، يقول الإمام محمد عبده: "وإن حب الراحة يوقع في تعب لا نهاية له، وهو تعب البطالة والكسل أو العمل الاضطراري. ومن لا يذوق لذة العمل الاختياري لا يذوق لذة الراحة الحقيقية، لأنّ الله تعالى لم يضع الراحة في غير العمل".

إنّ قيمة الأمم بقدر منجزاتها، وحراكها، وهمّتها، فإن مالت إلى طلب الاسترخاء في أبسط مناسبة عطّل ذلك من حراكها، وإن تذمّر أفرادها من قلة العُطل، واشتكوا من كثرة العمل فإنّها قليلةُ الإنجاز، متواضعة النماء. وإن كثر فيها التسويف والتأجيل في المصالح دل ذلك على خلل في التنشئة وصدع في التعليم، وعلّة في مفهوم العمل. فإن الأمّة لا يستقيمُ لها أمر، ولا تقوم لها حضارة إلا بالجديّة والمثابرة، وهذا ما يوجّهُ إلى معرفته واكتشافه للنشء منذ الصغر، فإنّ الكسل مطيّة الفشل، والنشاط مطيّة النجاح كما يقال وفي هذا يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه :"الكسل مفتاح البؤس به تولدت الفاقة ونتجت الهلكة"، وما تقدّمت أمّة في مجالات العلم أو الصناعة أو الاقتصاد إلاّ بالجدّ والاجتهاد..

بقدر الكدّ تُكتسبُ المعالي.. ومن طلب العلى سهر الليالي..

وإذا كان إسلامنا العظيم يحثّنا على الترويح عن النفس فإنّه يحثّنا أكثر على العمل، ففي الحديث "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها". وما عطّل نماء مجتمعاتنا وازدهارها إلاّ التراخي، وحب الراحة لغير منفعة..! الاسترخاءُ في مفهومه سانحةُ تفكّر، وفرصةُ تدبّر، فكم هي الأفكار العظيمة التي سطعت للإنسانية في لحظة استجمام، وفترة استرخاء. إذن فالرّاحة ليست إقفالُ العقل عن التفكير، وتعطيله عن التدبّر، كما أنّ العطلة لا تعني التوقف عن العمل. لقد شدّني إعجابا منظر المليونير الكوري الذي يجمع القمامة كل صباح في إحدى دول الخليج منذ أحد عشر عاما لينشر قيمة النظافة حتى أن شابا خليجيا يقول له: أنت قيمة بالنسبة لنا وليس سلعة، ثم يقول بعيدًا عنه: إننا يجب أن نراجع أنفسنا..!.. أمر مخجل أن يأتي أجنبي أفرزتهُ ثقافة العمل الجاد التي ساد اقتصادها العالم ليعلّم مجتمعاتنا كيف تشغلُ وقتها في الوقت الذي كان فيه شبابها نائمون، تعبون، مرهقون لا بسبب العمل وكثرة الإنجازات وإنّما بسبب السهر والتسكع في المراكز، والجلوس في المقاهي..!

تعليق عبر الفيس بوك