عُمان الفرقة الناجية.. الأسباب والآليات والنتائج

ناصر أبو عون

في زحمة الرؤى السياسية المُعتمة لمستقبل الأمتين العربية والإسلامية، وتضارب السياسات المبنية على أنقاض الحضارة العربية، وتصارع الزعامات على ميراث (السيادة) في منطقة الشرق الأوسط وفي خضم سطوة الرأسمالية العالمية، وبعيدًا عن نظرية (المؤامرة) ما يزال الإنسان العربي يصارع بحثًا عن (مصيره) في بحر لجيّ من (المصالح)، ويتقاسم نصيبه من (الخيبات والهزائم) التي خلّفتها فلسفة (الفوضى الخلاقة)، فطوّحت شعوبًا في الدرك الأسفل من الجحيم، وجزَّأتْ المجزأ وقسّمت المقسّم، ونفضت يديها من (القيم) وأضحت تجري وراء سراب السيطرة وبسط السيادة الزائفة تحركها (نوازع براجماتية خالصة) مسبوقة بعملية (غسل دماغ) ممنهج لقاموس القيم العربية والإسلامية المتوارثة، ومتبوعة بجراحة ناجحة لاستئصال (الضمير العربي) من الجسد الثقافي واستبداله بشريحة إلكترونية قابلة للمحو والإقصاء والإلغاء، وتحميل حزمة من برامج (الصمت)، و(النسيان)، واستبدال (الهويّة) بمسكنّات طويلة المفعول.

وسط هذا المشهد (التراجيدي)، العاقلون، والصادقون وحدهم فقط من ينجح في السير بقدم واحدة على (حدِّ السيف)، والانخلاع من (ربقة التخلّف)، و(الانفلات من شبكة الصياد).. في جحيم هذه الفوضى الخلاقة خرجت سلطنة عُمان (الفرقة الناجية) من (بحر الدماء)، راضيةّ مرضيَة.

وقبيل الدخول في أسباب نجاة سلطنة عُمان من شبكة ما يُسمى كذبًا (الربيع العربي) ولابد لنا من طرح السؤال القديم والمتجدد على جميع طاولات الإنسان العربي بتعبير (ناصر الرباط): هل طغيان الاستبداد في العالم العربي نتيجة إخفاق سياسي محدد بسياق تاريخي واضح؟ أم دليل خلل ثقافي أعمق وأوسع استشراءً؟

وهذا السؤال يستدعي العودة إلى تاريخ نشأة الدولة العربية الحديثة التي جرفت غالبيتها (موجة شعبوية) منذ منتصف القرن العشرين فأنتجت لنا مسخا سياسيا موسوما بـ(حكم شمولي طاغٍ) يستخدم الدين والدنيا معًا في (تثبيت استبداده)، ويتحرك ضمن نطاق (الدولة /الوطن) وإن كان لا يفهم مسؤوليات الدولة وحقوق المواطن!! فـ(الدولة العربية الحديثة)، و(تنظيم الدولة الإسلامية) يستخدمان (الاستبداد) في إرساء شرعيتهما: (استبداد الدولة الهجينة حداثياً) في مواجهة (استبداد العصبة) التي صارت دولة لا تاريخية؛ بل عكس تاريخية إذ إنّها تروم العودة بالزمن. والاثنتان يستندان على (المصادر الإسلامية) في (تبرير توجهاتهما، وأفعالهما الاستبدادية) بتأويلات مختلفة للنصوص الدينية، وأيضا بفهم مختلف.

لقد كان المناخ العربي مواتيا والتربة مهيأة لـ(سادة العالم الجدد) بتعبير الفرنسي اينياسيو رامونيه حيث ساهم في تسهيل المهمة وتهيئة الأجواء أمام (الشركات المتعددة الجنسيات)، و(العابرة للقارات) في بسط هيمنتها الكاملة على العالم وكانت قبضتها أكثر إحكاماً على عالمنا العربي بفضل البيئة والمناخ الذي ساهمنا في تحضيره والمسرح العربي الذي قمنا بتأسيس أركانه ليستقبل ممثليها ويمهّد الطريق لمنسقيها والسماسرة من كل حدب وصوب..

وجود هذه الشركات العابرة للقارات لم يكن جديدًا ولكن حجم قوتها هو الذي أصبح جديدًا فاللوبي الصناعي العسكري هيمن على الولايات المتحدة بشكل تكرّس نهائيًا في عهد نيكسون الذي قال في خطاب استقالته بوضوح: (إذا استمرّت هيمنة هذا اللوبي فإنّه سُيقضى على الديمقراطية). وصدقت رؤيته حيث أكدت متوالية الأحداث أنّ (الاستهلاك السلمي) لن يسد (جوع الشركات المتعددة الجنسيات)، ولن يفي بالغرض. فكان (الحل الوحيد لعلاج أزمة الرأسمالية العالمية) التي أفضت إليها سياسات العولمة هي (إيجاد أسواق متجددة ومتعطشة للسلاح) ومن ثَمَّ (إيجاد بؤر متجددة للنزاعات العسكرية)، و(منع أيَّة حلول سلمية) لأيَّة أزمة ممكنة؛ بل و(استبعاد أي حلّ سياسي)، و(إبعاد أيّ قائد سياسي) يسير عكس هذا المنهج.

في ظل هذا التوجّه الذي تأسس مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين نجحت سلطنة عمان مع مجيء السلطان قابوس إلى سُدّة الحكم في قراءة الخارطة، واستئصال (الأمراض المتوطنة في جسد الأمة العربية) من (الجسد العماني) بعدة تدابير ناجعة وعاجلة كان من أهمها:

أولاً - نجاح عُمان/ قابوس في تأسيس دولة (مواطنة) والتعامل وفق مبدأ (مواطنين لا رعايا). فكان هذا المبدأ أحد أعمدة بناء الهوية الوطنية و(دستور ضمني) غير المكتوب و(غير معلن)، ولكنه كائن ومتجسد في نفوس أبناء الوطن الواحد فاعتنقوه وحافظوا عليه كجزء من تكوينهم الوجداني والذهني والنفسي؛ بل أضحى مكونا ثقافيا وقانونيا يرجع إليه - وفق رؤية الباحث إبراهيم رمضان الديب - وإن عبقرية الهوية الوطنية الواحدة الجامعة تتمثل أيضًا في:

(أ‌) قدرتها الكامنة على تحويل التعدد والتنوع الطبيعي للمجتمع إلى ثروة وطنية لتنمية ونهضة المجتمع، وتحويل التقاطع والصراع الطائفي إلى احتشاد منظم نحو بوصلة وطنية واحدة.

(ب‌) نزع فتيل المفجر النفسي والذهني الخاص بالخوف لدى كل فصيل على حاضره ومستقبله خشية الإقصاء والحرمان من حقوقه الخاصة والعامة، والذي يدفع الإنسان والتجمع البشري بفطرته نحو التقوقع حول ذاته، ثم محاولات تحصينها وتقويتها تمهيداً للصراع مع الآخر، مما يحول المجتمع إلى جزر منعزلة متقاطعة المصالح جاهزة للصراع الناعم ثم الصلب المدمر لمقومات المجتمع، وتحويل هذه الطاقة والقوة النفسية السلبية المشحونة داخل النفوس القلقة الخائفة التي تعد نفسها وتحشد مواردها وطاقتها للصراع المحتوم المقبل في أيّ لحظة، تحوله إلى طاقة إيجابية من الحب والتعاون والتكامل لبناء وتنمية الوطن.

ثانياً - حسمت عمان/ قابوس قضية بناء الدولة حيث جعلت من القبيلة (بِنْيَة ونواة أخلاقية)، واتجهت نحو بناء (دولة مؤسسات حقيقية لا ديكورية) الكل يخضع فيها لسلطة القانون لا سلطة العائلة الحاكمة.

ثالثا - عالجت عُمان/ قابوس القضايا العالقة (تاريخيا) ومنة أهمها: (قضايا الحدود)، وقضايا (الجنسية والمواطنة العمانية) في حين أبقت بعض الدول هذه القضايا عالقة فكانت بمثابة (خنجر في خاصرة الأمة).

رابعًا - كانت رؤية عُمان قابوس تنظر إلى (السياسة) كونها (وسيلة) تمكّن الفرد من اجتياز الاختبار الدنيوي والوصول إلى يوم الحساب وكان هذا سبباً في أن تنزع (فلسفة الحكم عند السلطان قابوس) منذ البداية نحو استخدام السياسة كوسيلة، فاستنبطت المبادئ العامة لسياسة الدولة من جوهر الإسلام. انطلاقًا من (أدبيات المذهب الإباضي) وهي نتيجة واقعية توصلت إليها دراسة محمود مسعود شيبة نصار في أطروحته بكلية الدراسات الإسلامية.

ولذا فمن يطالع محاورات السلطان قابوس (نظريًا)، ويحاول مطابقتها مع الوقائع على الأرض، يجدها صدى ومحاولة ناجحة في تطبيق (الرؤية الإسلامية لمؤسسة الحكم من وجهة نظر إباضية) ففي حوار للسلطان المفدّى مع مجلة المصور المصرية أعادت نشره جريدة عُمان يوم 04\04\1985 يقول: (لقد تعايشت هذه المذاهب في تواد وتراحم؛ لأنّ جوهرها يُعبِّر عن روح الإسلام. إنّه دين العقل الذي لم يغلق أبدًا باب الاجتهاد لكي يبقى المسلمون دائماً على وفاق مع عصرهم. وللأسف فإنّ البعض يريد للإسلام الجمود وللمسلمين التخلف عن روح العصر.. هؤلاء فيما أعتقد لا يخدمون الإسلام وإنما يخدمون أهدافا أخرى غريبة عن الإسلام وليست في صالحه). وهنا يمكن للقارئ استنباط الخطوط العريضة لرؤية السلطان قابوس السياسية ومبادئ سياسته في قيادة الدولة بل والغوص وراء المعاني لاكتشاف المعين الذي يستقي منه أفكاره والأسباب الكامنة في فلسفة حكمه والتي انطلق منها في بناء دعائم دولته، وسعيه المتواصل إلى تحقيق أهدافه الاستراتيجية التي خطّ معالمها منذ بداية الطريق وكان من أهم هذه المبادئ:

أولاً - هدف السياسة في الإسلام إقامة الدين وتدبير سياسة المحكومين.

ثانياً - ليس للإسلام صورة واحدة في النظام السياسي، ومن يعتقد أنَّ للإسلام صورة واحدة في نظام الحكم فقد جاوز الصواب.

ثالثًا - ليس نظام الحكم في الإسلام وراثيًا، ولا ثيوقراطيا يستغل به رجال الدين سيطرتهم على العباد. إنما هو نظام حياتي مستمد من الوحي ومعايش للواقع المستجد في ظل أهل الحل والعقد.

رابعًا - نظام السياسة في الإسلام لا يحجم عن الغير بل يستفيد من تجاربهم.

خامسًا - في السياسة الإسلامية القدوة قبل السلطة، والتوجيه قبل التشريع؛ ذلك لأنّ السلطة والقدوة متعاونتان، لأن النفس البشرية تتردد بين رغب ورهب؛ فالقدوة تولد الرغب والسلطة تولد الرهب، والقوة تدفع والسلطة تزع.

سادسًا - تتسم السياسة في الإسلام بالثبات لا الجمود، والتوازن، والعدل.

سابعاً - هي سياسة هادفة إلى العزة والكرامة الإنسانية والخيرية والعدل المطلق، ونفي العنصرية، كما تهدف إلى البرِّ، والقسط، والرحمة، وتهدف إلى قدسية المعاملات والمواثيق الدولية.

ثامنًا - هي سياسة مقاصد، توصف بالإيجابية والتسامح والصالح العام والعمل مع الفطرة لا ضدها.

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك