لمن تُوقّع؟

جمال القيسي

لست، ولا أظنني سأكون، مع القائلين بضرورة النظر دائمًا إلى النصف الممتلئ من الكأس؛ ذلك أنّ الاكتفاء بالتمعن والتأمل والتغزل بالنصف الممتلئ هو في كثير من الأحايين لا يُعبر عن غير ترهل فكري، وكسل ذهني، والنوم في عسل الإيجابية الزائفة، كما أنّه لا يغدو صورة من الاستسلام للواقع الذي لم تشكل له عين الناظر أية إضافة سوى رؤيته، إن كان النظر إلى النصف الممتلئ يحقق إضافة ما.

وعلى صعيد النصف الممتلئ بمشاركة مئات دور النشر العربية في معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الخامسة والعشرين من 7-13 مايو الجاري، فإنّ النصف الفارغ في كأس هذه المشاركة هائل ويتكرر في نفسي كلما تكررت المحافل الثقافية العربية وصار للكتّاب ودور النشر موسمهم الذي تلتمع نجومهم فيه، كل في مجال نجوميته الفريدة.

اليوم، صار لابد أن نتناسى النصف الممتلئ تمامًا حين نستذكر مدة قراءة المواطن العربي في السنة، والتي لا تتجاوز الست دقائق! جميل أن نتناسى حين نستذكر!.

بات من الضروري أن نقرع خزان الاحتراق وقد صار يتباهى كثيرون بتوقيع ما يعتبرونه دواوين شعرية وروايات وقصص في المعارض الدولية. يقول أحد الطيبين: أوافق على إصدار هؤلاء للمؤلفات الأدبية حيث لكل من النّاس ذائقته التي تقبل أو ترفض أو تنتقد أو تعترض على هذا الأدب، لكن ما لم يمكن قبوله اقتحام هؤلاء حقول الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع والتربية وعلوم اللغة!.

لكني أقول لهذا الطيب إنّك طيب بالفعل بل وأكثر من طيب، حين تتهاون وتستهين بالآداب وتعتبر أنّ الأمر بالنتيجة عائد إلى الذائقة، فإذا كان الأمر في حقل الإبداع عائد إلى الذائقة، فليكن في الفكر والفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع قابل للتقبل. ألسنا نقبل من الفلسفة ما نشاء ونطرح ما يخالف موروثنا! وليس هذا فقط ما يقف في وجه الطيب.

عود على بدء. إذا كان السيِّد المواطن العربي لا يقرأ أكثر من هذه الدقائق الست (ألم يقدر على إتمامها حتى 10 دقائق.. تسهيلا لسلاسة الكلام)، وإذا كان كل هذا الإنتاج من الكتب يتزايد عاماً بعد عام. فإني سأطرح سؤالا من وزن سؤال الطفل العميق الذي رأى الملك عاريًا حين غشته بطانته بإيهامه أنّه يرتدي ثوباً لم يخطه خياط من قبل. سؤالي البريء جدا: لمن تنشرون كل هذه الكتب؟ الرجل دلت عليه الدراسات والإحصاءات والاستطلاعات العلمية وقالت إنّه لا يقرأ أكثر من 10 دقائق عفوا 6 دقائق.

فلمن هذه الأطنان من الحبر والورق والعمال والمنسقون و.. و.. و.. إذا لم يواز هذه المتاعب حيز قراءة وفسيح وقت. هل تستثمر دور النشر لدينا بلا مقابل؟ قطعًا لا. وعليه فثمة استنتاج بأن هذه الكتب تذهب للزينة في البيوت، وإلى مستودعات المؤسسات، وعلى نحو آخر ربما تذهب إلى التبخر بمجرد الخروج بها من المطبعة. أو لربما أني أرى الأشياء أكثر ضخامة مما هي عليه، فيخيل لي أنّ دور النشر المشاركة في المعرض 800 بينما هي في الحقيقة 8 أو لربما أني لمحت عدة "حفلات" توقيع لا مئات!.

لمن تكتب؟ كأن الأمر كله مثل السؤال الكلاسيكي الذي ظل على ألسنة المحررين الثقافيين ردحا طويلا من الدهر، حتى ذاب ولم يبق منه سوى تحوله إلى شكل آخر حتى سمعت بركان السخرية الذي في داخلي يقترح أن يمر المحرر الثقافي على كل كاتب يوقع كتابه في المعرض فيسأله: لمن توقع؟

لا شك أنّه لن يحار أو يحير (غير مهم كثيرا) جوابا. ذلك أنّ الجواب لن يخرج عن تلك الأجوبة المضحكة على السؤال التاريخي الذي دوّخ القراء: لمن تكتب؟

الجواب الصادق يفترض أن يكون: أوقع لمن يقرأ.

شكرًا حضرة الكاتب، ولكن ثمة سؤال آخر نمرره عبر المحرر الثقافي:

إذا لم يكن هناك من يقرأ فلمن توقع يا عزيزي!

وفي أيّ نصف من الكأس نصنف الأمر؟.

تعليق عبر الفيس بوك