نقد الحال الراهن (9) "الشخصنة"

د. صالح الفهدي

قال لي: إنّه وبعد أن كتبَ أفكاراً ينتقدُ فيها بموضوعيةٍ، ويطرحُ فيها تصوُّراتٍ لا تمسُّ "شخوصا" إنّما تنتقدُ آليات العملِ، وتبيِّن إشكاليات النظامِ، تمَّت مكافأتهُ بإخراجه من اللجان التي كان عضواً فيها في ذلك القطاع..! وقال لي آخر: إن أفكاره تربطُ بشخصه؛ فهي ترفَضُ كلَّما قُدِّمت مذيَّلةً باسمهِ، وتُقبل عندما لا يُعرفُ من صاحبها...!

... إنَّ شخصنة الأفكار من أشدّ الأمراض التي ابتليت بها ثقافتنا وأكثرها خطراً لأنها حرمت الأوطان من العطاءاتِ المتميزّة، والمهارات المبدعة، والعقول الخلاّقة بسبب إقصاءِ أشخاصٍ عن المواقع القياديةِ، أو المناصب التنفيذية؛ لأنَّ صاحبَ القرار خلط بين "الذاتية" و"الموضوعية" أي بين جديّة النقد وبين شعوره بأنه هو المقصود من وراء هذا النقد وليس الأداء أو المؤسسة أو النظام..!

لقد علَّمنا الله العظيم درساً رفيعاً في العدلِ، وفصلِ "الذاتي" عن "الموضوعي"؛ فقال سبحانه: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا"، ومعناها أن لا يحملكم بغضكم لقومٍ على أن تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم، بل اعدلوا فيهم. لكنَّ ثقافة الشخصنة مُتفشّية في مُجتمعاتنا الإسلامية، فإن انتقدَ فردٌ نقصاً في خدمةٍ أضمرها المسؤول الأول في نفسه..! وإن أشار أحدٌ في الحياةِ الاجتماعية إلى شيء ظنَّ الآخر أن تلك الإشارة تعنيه؛ فقال: لقد كان يقصدني دون شك..! يقول الفيلسوف مالك بن نبي: "إنَّ الإنسان في أطواره يمر بثلاث مراحل: مرحلة التعلق بالأشياء، ثم التعلق بالأشخاص، ثم التعلق بالأفكار"، لكن لم يستطع الكثيرون في مجتمعاتنا الانتقال من عالم الأشخاصِ إلى عالم الأفكار، حتى إنَّ بعضهم يتظاهرُ بفصلِ الأفكارِ عن المشاعرِ الشخصية نحو الآخر إنّما تفضحهُ مواقفه وآراؤه..!

وإذا كان للأمّة من درسٍ تتعلّمه في التخلصِ من داءِ الشخصنة، فيتجلّى في الموقف التاريخي الذي حدث عند عزل سيدنا عُمر بن الخطاب أمير المؤمنين لخالد بن الوليد -رضي الله عنهما- من إمارة الجيش؛ إذ إنَّ خالداً لم يأخذ الأمرَ على أنّه شخصي يتقصّد ذاته وهو الذي ما قصّر في إمارته ولا تهاون في مهارته، إنّما قال: "الحمد لله الذي ولَّى عمر بن الخطاب، وقد كان أبوبكر أحب لديَّ من عمر بن الخطاب؛ فالحمد لله الذي ولَّى عمر، ثم ألزمني حُبَّه"؛ فمنذ هذه اللحظة أصبح يحب عمر بن الخطاب، وليس فقط يطيعه..!! لقد صيَّر الموقف مناسبةً للحبِّ لأنه ارتقى بنفسه فوق هوى النفس..!

تستمدُّ ثقافة الشخصنة جذورها من سوء الظن، وإحاطة النفس بالعصمة، والتعصب للرأي وعدم التسامحِ مع الفكرِ الآخر؛ لذلك نشأت الأقطاب المتنافرة "مع" أو"ضد"؛ فإن نصحت إنساناً في خطئه لإنسانٍ آخرٍ، يقفزُ بك على الفورِ من عالم الأفكار التي تناقشه فيه إلى الأشخاص فيتهمك بأنّك ضدّه دون مبرر موضوعي..!. هي ثقافة تنشأ في البيوت فالأب الذي يبدي ابنه وجهة نظرٍ معارضة لرأيه يحسبها انتقاصاً منه، ولا ينظرُ إليها على أنها تصويب رأيٍ، أو تصحيح فكرة..! لهذا فإن الابن يكبرُ بدوره ممارساً لهذه الثقافة الإقصائية للأفكار؛ فينظر للأشخاص بناءً على مشاعرهِ تجاههم لا أفكارهم. ويصبحُ مسؤولاً فيرقّي هذا وفقاً لتملِّقه إليه، وتزلِّفهِ نحوه، ويقصي آخرين لأفكارهم التي يعتقدُ أنهم يريدون بها زحزحته عن كرسيه..! ولهذا فلا غرابةَ أن يبلغَ الفجور في الخصومةِ مداه رغم أن المختلفَ حولها هي الأفكار وليس الأشخاص، لكن هوى النفسِ وذاتيتها غلبا على عدلها وعقلانيتها..!

وفي بَعْض الدول التي استطاعت ثقافتها أن تفصل بين "الذاتي" و"الموضوعي"، وبين "الهوى" و"العقل"، استطاع إنسانُها أن يرتقي فوق مشاعره الشخصية نحو الأشخاص فلا يعاملهم بحسب رأيهم فيه، وإنّما بحسب أعمالهم. يقول أحد الموظفين في إحدى الشركات: "إن مديرتنا الأجنبية تفصلُ بين اختلاف الموظفين معها وإنصافها لهم". أمّا في مُجتمعاتنا، فإنَّ المصلحةَ لا تتحقق إلاّ برضا المسؤول، والتوصية لا تكون إلا بحسب درجة القربِ منه، حتى إنَّ أحد المديرين اشتكى على أحد موظفيه لأنه لا يدخلُ مكتبه إلا من أجلِ العمل فقط!

يقول المفكر د. طارق حجي: "أَما عندنا؛ فالأمرُ مُختلفٌ كل الاختلاف؛ إذ إنَّ الآراءَ تكاد تكون لأصحابِها مثل الأعضاءِ والملامحِ فهم من جهةٍ يعتزون بها اعتزازاً يخرج بالعلاقةِ عن إطارِ الموضوعية، ويدلف بها إلى دائرة الذاتيةِ والشخصانيةِ، وهم من جهةٍ أُخرى يخلطون ما بين كرامتهم وكبريائهم وأي مساسٍ بتلك الآراء أو محاولة لدحضها أو تفنيدها أو حتى تعديلها".

... سألني محاورٌ في برنامج تليفزيوني: لماذا اختفى النقّادُ من الساحة أو ندرَ وجودهم؟! فقلتُ له: لأن ثقافة النقدِ مفتقدةٌ في البيوت. وفي رحاب المجتمع، فإنَّ الناقد يفقدُ العلاقة مع كل من يوجّه النقدَ لأدائهِ حتى وإن كان النقدُ بناء..! ولنسأل: لماذا لا تبادر الجهات المنتقدة بالاتصالِ بناقدٍ يهدفُ من نقدهِ البناءِ مصلحةً، ويرومُ نفعاً إمّا لشكرهِ على تصحيحهِ، أو لطلبِ المساعدةِ منه على إيجادِ حل؟! لماذا يتم تجاهل أصحابُ مبادراتٍ خليقةٍ بالعطاءِ، وعقولٍ جديرةٍ بالسخاء؟!

حاصلُ القولِ أنَّه لا نهضةَ للأوطانِ، ولا تقدُّمَ للإنسانِ إن تفشت الشخصنة في جسديهما؛ فما يفرّقان بين "رأي" و"ذات" ولا يفصلان بين "هوى" و"عقل".. صحيحٌ أن التمييز يتطلّبُ استعداداً نفسياً عظيماً، لكنّه دورُ التربيةِ، وهدف التعليم، فهما يطبعان الإنسانَ بحسبِ ما يرميانِ إليه، فينشأُ وهو "يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال".. وتلك من أعظم الفضائل.

تعليق عبر الفيس بوك