الاستشراق (1)

ناصر محمد

ربما يندر حاليا أن تذكر كلمة الاستشراق دون استحضار ظلها الدائم في الذهن "إدوارد سعيد"، وكما أن الكثير من المسمّيات توسم على جبين روادها مثل "العقلانية" و"ديكارت" أو "الوضعية" و"أوغست كونت"، فهناك أيضًا مسمّيات تلصق بألدّ أعدائها ومفككيها مثل الأمريكي الفلسطيني الأصل "إدوارد سعيد". وقد لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا إدوارد بمثابة "نفي النفي" للاستشراق بالاستعارة من جدلية هيجل، فهو بحق رائد كبير في وضع الاستشراق تحت مرآة التفكير الحر غير المقيد بقيود عنصرية أو جغرافية أو آيديولوجية.

بعيدا عن تناول كتاب الاستشراق ضمن دائرة صراع المعارض والمؤيد الذي غيّب -والحق يقال- الاطروحات العميقة التي تناولها، فإن هذا المؤلَّف يقدم رؤية من الخارج عن البنى الفكرية الراسخة التي تتحكم بالفكر الأوروبي عند تناوله للشرق، ذلك المسمى ذو البعد الجغرافي والذي اكتسى، بسبب خصوصية علاقته مع الغرب، بذلك الطابع العنصري ذي الطموحات الاستعمارية. ولقد كان منهج إدوارد في التحليل قريبا من مناهج نقّاد "الذات" ما بعد الحداثية مثل الفرنسي "فوكو"، إلا أن إدوارد يرى نفسه في خلاف مع فوكو، مثله مثل جورج طرابيشي، بخصوص دعوى فوكو بعدم اتصال المراحل التاريخية ببعضها في جدلية السبب والمسبب، ولهذا اتُّهم ادوارد من قبل كثير من النقّاد الغربيين باللاتاريخية وذلك لأنه يرى العقل الأوروبي الحالي امتدادا للماضي.

"لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولابد أن يمثلهم أحد"، كانت هذه العبارة لـ "كارل ماركس" المدخل المثير للفصل الأول المعنون بـ " نطاق الاستشراق" من كتاب الاستشراق، فصاحب الاستشراق يود أن يعطي مثالا عن توغّل البنية الاستشراقية على العقول الغربية وحتى الفلسفية منها، ويقدّم سعيد بعد ذلك أحد رموز الاستعمار الغربي وهو "آرثر جيمس بلفور" (1848-1930) رئيس وزراء بريطانيا في بداية القرن العشرين كمثال على تشرّبه للحقائق المرسومة عن الاستشراق في ذهنه وذلك حين يقول في إطار تبرير الهيمنة على مصر: "انظروا أولا إلى حقائق القضية: إن الأمم الغربية ما أن يبدأ ظهورها في التاريخ حتى تظهر بدايات قدرتها على الحكم الذاتي، وهي القدرة الجديرة بالتقدير في ذاتها، ثم انظروا إلى تاريخ الشرقيين برمته فيما يسمى بصفة عامة الشرق، ولن تجدوا آثارا تنبئ عن الحكم الذاتي إطلاقا". ويقدم سعيد بعد ذلك نظير بلفور وهو "اللورد كرومر" (1841-1917) كتوضيح عن رؤية الغربي اليقينية للعقل الشرقي غير المنطقي حين يقول: "الدقة يبغضها العقل الشرقي، وعلى كل انجليزي يقيم في الهند أن يذكر ذلك دائما، والافتقار إلى الدقة، وهي الصفة التي يسهل انحطاطها فتتحول إلى كذب، وهو في الواقع الخصيصة الرئيسية للعقل الشرقي". ومن خلال هذه الأمثلة، يشرع سعيد بالتأكيد على أن هذه النظرة الدونية ليست وليدة اللحظة بقدر ماهي نتيجة ترسّبات سياسية وعلمية وكذلك أدبية. وعليه، يقوم سعيد بعرض تلك البنى المعرفية التي شكّلت موضوع الاستشراق الدسم والتي حددها في ثلاثة أشكال: الأول ويتمثل في أن غزو نابليون لمصر هو النموذج الصادق للاستيلاء العلمي الحقيقي على ثقافة ما من جانب ثقافة أخرى أقوى منها فيما يظهر. والثاني في تحديث المعرفة بالشرق لدى الغرب عن طريق البحوث اللغوية لرينان وعلم النحو المقارن والتشريح المقارن واللغات السامية. أما الشكل الثالث فهو عن قيود التفكير في الشرق خاصة على الأدباء مثل "نيرفال" و"فلوبير" و"سكوط".

ويبين إدوارد في "الجغرافية الخيالية وصورها" عن ولع الغرب بالشرق في القرن التاسع عشر وتحديده جغرافيا وكأنه من كوكب آخر، ولـ "فيكتور هوغو" تأكيد على ذلك حين يقول: كان المرء في قرن لويس الرابع عشر مولعا باليونان، أما الآن فهو مستشرق! ويرتبط الاستشراق أيضا بالمشروعات الأوروبية اتجاه الشرق سواء كانت علمية مثل أعمال البريطاني "وليم جونز" الرائد في علم فقه اللغة باكتشافه لأصول اللغة الهندو - أوروبية "السنسكريتية" والتي أزاحت اللغة السامية عن الوعي الأوروبي باعتبارها لغة الفردوس المرتبطة بالمسيحية، وقد أفادت أعمال جونز الحملات الاستعمارية مثل حملة نابليون في تكوين رؤية علمية "مستحوذة" عن الشرق والذي باركها الأدب متمثلا بـ "هوغو" في قصيدة له حين يقول عن نابليون: على ضفاف النيل وجدته مرة أخرى, وقد أضاءت مصر بأنوار فجره، وفي الشرق يسطع نجم سلطانه، متحمس منتصر يتفجر بالمنجزات، فبدا في رفعته لعيون لقبائل الذاهلة، كأنه محمد أتى من الغرب.

في الفصل الثاني المعنون بـ "أبنية الاستشراق وإعادة بنائها" وذلك منذ فشل حملة نابليون دخل الاستشراق إلى مرحلة جديدة وهي تسطيح الشرق لإمكانية رؤيته وتحديده، وهذا ما قام به الفرنسي " سيلفستر دو ساسي" أول معلم للعربية في معاهد للعلوم الاستشراقية وواضع قواعدها في مؤلفاته "مبادئ النحو العام"، و"المنتخبات العربية"، وترجمته لكليلة ودمنة ومقامات الحريري. يؤكد ساسي هيمنة الغرب وذلك أن ذوق الأوروبي لن يتقبل الشرقي ولن يتقبله ذكاؤه، و"إرنست رينان" الذي استخدم فقه اللغة في تكريس نظرته العنصرية ضد اللغات السامية والساميين عموما، وكذلك لاستناده لعلم التشريح المقارن لتبرير الفوارق الجسدية والعرقية بين الشرق والغرب.

ولم يسلم الأدب من ذلك أيضا، فعلى الرغم من أن الأدب ينظر إليه على أنه محايد أمام شبهات السياسة، إلى أن إدوارد يطرح بعض الأمثلة على هيمنة الصورة الاستشراقية المسطّحة للشرق على أعمال بعض الأدباء مثل الفرنسي "غوستاف فلوبير" في روايته "بوفار وبيكوشيه" إذ تسيطر فكرة إعادة بناء الغرب بالشرق، وكذلك "فرانسوا دو شاتوبريان" الذي على الرغم من رحلته إلى الشرق التي دوّنها في كتابه "الطريق من باريس إلى القدس" إلا أنه لم يستطع أن يبعد تلك الصورة المسبقة عن الشرق في نصوصه، هذه الصورة التي كوّنها "حجاج" الغرب إلى الشرق مثل البريطاني "وليم لين" في كتابه "أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم" الذي عاش مع المصريين ولكن بهاجس الرغبة في عدم الانصهار معهم وإنكار الذات لكي لا تتعارض مع الرؤية الكبرى للاستشراق، وكذلك "راينهارت دوزي" (1820-1883) في كتابه "تاريخ المسلمين الإسبانيين حتى فتح المرابطين في الأندلس" (4 مجلدات) التي استفاد منها رينان كثيرا، وكذلك كتاب "ميور" "حياة محمد" 1858-1861 و "الخلافة: نشأتها تدهورها سقوطها"1891.

تعليق عبر الفيس بوك