كرة القدم بين الحب والكره (2)

عيسى الرواحي

عندما نتحدث عن أخبار الأندية الرياضية والفرق الأهليّة وأنشطتها المختلفة، فمن اﻷهميّة أن نوضح أنّ صاحب الجلالة ـ حفظه الله ورعاه ـ قد أكّد في أحد خطاباته على أهميّة دور الأندية الرياضيّة في أن تكون منبرًا لنشر الأخلاق الفاضلة وترسيخ العادات العمانية الأصيلة، ومن خلال الشعارات فإنّ الأندية الرياضية والفرق اﻷهلية على حد سواء ترفع شعار أن تسعى لتأصيل الجوانب الرياضية والثقافية والاجتماعية في المجتمع؛ بما يحقق اﻷهداف المنشودة، ولكن هل نجد ذلك حقا على أرض الواقع؟

على المستوى الرياضي في الأندية أو الفرق الأهلية فإنّ كرة القدم لم تؤصل الجوانب الأخلاقيّة والسلوكية عند أعضائها ومنتسبيها ومتابعيها بقدر ما نشرت صنوفًا شتى من ألوان العبث واللهو والتخبط والعشوائية والاعتداء والأخلاق الذميمة، فما أكثر المهاترات التي تحدث عقب المباريات في المنتديات وعبر وسائل التواصل الأخرى في صورة مجردة من احترام الذات وتقدير الطرف الآخر ولدت كثيرًا من العداوات! وما أعظم الشحناء والبغضاء والحقد والكراهيّة بين الخاسرين والرابحين في هذه اللعبة من اللاعبين والمتابعين!

وعندما يكون الحال كذلك، فهل نرجو ثمارًا اجتماعية نحصدها من هذه الرياضة؟!

لقد شهدنا وسمعنا وعلمنا أنّ ما يحدث أثناء المباريات ويعقبها خاصة فترة تنظيم البطولات أمور مؤسفة مرفوضة؛ حيث الفوضى التي انتهكت على إثرها حرمات البيوت الآمنة من إثارة للصخب والضجيج، وقطع للشوارع والطرقات فيما يسمى بالمسيرات في اعتداء واضح على الحقوق العامة وأنظمة المرور، ويصل الأمر إلى حدوث المشاجرات والتفحيص بالسيّارات داخل القرى والحارات!

ولقد كنا نرى سابقًا اعتبارات ومبادئ يرسخها مسؤولو هذه الرياضة في المجتمع كحملات التنظيف والتشجير، أو إيقاف هذه الرياضة أوقات الأتراح في تضامن محمود لأصحاب المصيبة، فوصل بنا الأمر أن تشيّع الجنازة صباحًا في قرية ما، وفي المساء تتعالى أصوات اللاعبين وصريخ المشجعين حيث تقام مباراة مهمة لا مجال فيها لأي اعتبارات، وفي إحدى الجنازات التي حضرتها رأيت أحد الأصحاب ينسحب أثناء غسيل الشاب المتوفى، فلما سألته فيما بعد عن سبب ذلك، أوضح بأنّ فريقه مرتبط بمباراة مهمة، ويريد متابعتهم! وهو موقف ذكرني بأولئك الذين لم تسمح لهم الوطنية في تشييع جنازة جارهم بسبب مباراة منتخبهم، فماذا نقول أكثر من ذلك؟

لقد فرّط كثير من الناس اليوم في حقوق الزوجية وحقوق الوالدين والرحم والجيرة والمرضى بسبب الولع الزائد بكرة القدم، ولم أكد أصدق أنّ أيام الأعياد التي هي أثمن فرصة لزيارة الأرحام والأصدقاء والمرضى واللقاءات العائلية أصبح يستغلها بعض الشباب في اللعب وتنظيم المباريات، وأذكر أنني زرت في ثاني أيام عيد الفطر السعيد المنصرم أحد من تجب زيارته، فلم أجده، فقيل لي إن لديه تدريبا مهما حيث يستعد فريقه لدخول بطولة كروية!

وأمّا أوقات رمضان الثمينة بأيامه المباركة ولياليه العظيمة، وعشر أواخره التي بها ليلة خير من ألف شهر فلا أرى داعيًا لبيان الواقع وسرد الحكاية، فلعل الصورة تبدو واضحة أمام مرأى ومسمع الجميع، ومما يزيد الأمر أسفًا وحسرة أن يفرط في كنوز هذه الأوقات من قد يكون قدوة لغيره، أو صاحب مكانة اجتماعية في مجتمعه، أو مكانة علمية في مؤسسته.

وعلى الصعيد الثقافي الذي هو أحد شعارات الأندية والفرق التابعة لها فلا مجال للمقارنة بين الجهود والمناشط الرياضية التي يقوم بها الفريق مقارنة بالأنشطة الثقافية، بل إنّ الأنشطة الثقافية بمختلف صنوفها أصبحت معدومة عند كثير من الأندية والفرق الأهلية، ونكون أكثر امتعاضا عندما تنظم بعض الفرق أنشطة ثقافية كأمسيات شعرية ومسابقات ثقافية وغيرها ولا تجد حضورا لها، وهو مبرر أصبحت بعض إدارات الفرق الأهلية ترفعه في عدم إقامة المناشط الثقافية في أنها لا تجد إقبالا ولا رغبة من قبل الجمهور في المشاركة والحضور.

لقد جنى أبناؤنا الطلاب ضريبة الشغف الكبير بكرة القدم ممارسة ومتابعة من قبل فئات المجتمع المختلفة، وحصدوا تلك الثمار المرة التي هي أمر من الحنظل والعلقم، فبات أغلب الطلاب مولعين بكرة القدم إلى حد كبير جدًا أسرت فيه قلوبهم وألبابهم؛ ففرطوا على إثره في دراستهم وامتحاناتهم، وأصبحنا نشاهد بكل أسف وحسرة كتابة أسماء الأندية واللاعبين على الكتب الدراسيّة والطاولات والكراسي وسائر المرافق المدرسيّة، وما أكثر الأحاديث الطافحة بحب الكرة والولع بها والشغف بأصحابها عند طلابنا في مدارسهم وطرقهم وبيوتهم! وبات كثير من الطلاب يملكون حصيلة واسعة من العلم والمعرفة في عالم كرة القدم، في الوقت الذي انحدرت فيه مستوياتهم الدراسية، وقلّت معارفهم العلميّة، وضحلت حصيلتهم الثقافية، وأصبح الضعف الدراسي السمة الغالبة عند طلاب اليوم، ناهيك عن التقصير واللامبالاة في أداء شعائرهم الدينية، وفقدانهم لهويّتهم الإسلاميّة، وتقليدهم الأعمى البغيض لرموز الكرة في ملبسهم ومظهرهم وعاداتهم وتقاليدهم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

إنّه واقع مجتمعي مؤسف يتحدث بنفسه عن تعاملنا مع كرة القدم ممارسة ومتابعة، وآثارها الخطيرة على المستويات التعليميّة لأبنائنا الطلاب، وأضرارها البالغة المتصاعدة على الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية عند الفئات العمرية الصغيرة والشابة.

ومن الضيم والإجحاف أن يكون ما ذكرته تعميمًا يشمل جميع من لهم علاقة بهذه الرياضة؛ فالسلوكيات الممقوتة، والآثار الناتجة تتفاوت بين بلدة وأخرى وفريق وفريق وقد نجد ظاهرة مذمومة عند أحد الأندية ولا نجدها عند النادي الآخر، ومن الإنصاف أن نذكر أنّ لبعض الأندية الرياضية والفرق الأهلية دورًا محمودًا مشهودًا في القيام بكثير من المناشط الثقافية والاجتماعية، والتأكيد على الثوابت والقيم الحميدة أثناء ممارسة هذه الرياضة وبأمثال هذه الأعمال نرفع التحية والتقدير لأصحابها، ونرجوها أن تكون بارزة عند جميع المؤسسات الرياضية. والقارئ المنصف لما كتبته في هذا المقال والمقال السابق يجد أنّ المقت الشديد الذي أبديته على كرة القدم عندما نتجاوز فيها الحدود، ونضيع فيها الواجبات، ونسرف في متابعتها الإسراف المذموم الذي على إثره نرث الغفلة وقسوة القلوب، ونفرط في الكثير من الحقوق والواجبات، ومهما حاولنا أن نسوغ لأنفسنا متعة متابعة الكرة وجدواها دون أن نقع في أي محظور أو تقصير في واجب، فعلينا أن نستذكر هول موقف القيامة الذي لن تزول قدما العبد فيه حتى يسأل عن عمره في ما أفناه، وشبابه فيما أبلاه.

إنّ الأمل الذي نأمله والرجاء الذي نرجوه أن نصحح أخطاءنا حول مفاهيم الرياضة والهواية وحدود الاعتدال فيها، ونحاسب أنفسنا على كل ما ارتكبناه من أخطاء وسلوكيات غير مقبولة بحق أنفسنا وأهلينا والآخرين في جميع ممارساتنا لأي رياضة، ونعدل مساراتنا الرياضية نحو هدف يرقى بالإنسان ويسمو به في كافة الأصعدة الدينيّة والأخلاقيّة والثقافية والاجتماعيّة والصحيّة، ونجعل من كافة الرياضات لنا ولأبنائنا مكسبًا ومنفعة لا مأثمًا ومضرّة، وأن نستشعر دائمًا وأبدًا أنّ أوقاتنا هي أعمارنا وأنّ كل لحظة من لحظات حياتنا لا تعوض ولن تعود، وأننا محاسبون عليها يوم القيامة... والله المستعان.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك