مكونات الوقفات النقدية وعناصر نجاحها

عبيدلي العبيدلي

فرض الحراك الذي عرفته المنطقة العربية خلال السنوات الأربع الماضية، وما أفرزه من واقع فرض نفسه على المنطقة العربية بشكل متفاوت في كل بلد منها، ضرورة الوقوف على نتائج ذلك الحراك، ورؤية النهايات التي آل إليها، والثمرات التي طرحها. وتفشت ظاهرة كررت نفسها في كل قطر عربي على حدة، تمثلت في مراجعات نقدية، أخذ البعض منها شكلا علنيا، في حين احتفظ البعض الآخر منها بالكثير من السريّة. وهذه ظاهرة صحيّة في مجملها، بغض النظر عن الملاحظات التي يمكن أن يبديها البعض على تلك الوقفات، أو يسوقها البعض الآخر ضدها. فإثر المعارك التي تخوضها القوى السياسية، تبرز الحاجة إلى وقفات نقديّة شاملة متكاملة تشخص سلوك تلك القوى، وطرق معالجتها للقضايا التي تصدت لها، وتنظر بعين نقدية فاحصة إلى الأخطاء التي ارتكبتها، والنجاحات التي حققتها، كي تستخلص منها - الأخطاء والنجاحات - العبر التي تعينها على تصحيح المسارات التي تسلكها، كي تقلص الأخطاء وتصوبها، وترسخ النجاحات وتبني عليها.

وعلى مر العصور تكدّست لدى المنخرطين في العمل السياسي مجموعة من الخبرات القيمة، أدى تراكمها إلى بناء مقومات لأسس تلك الوقفات التي تضمن العناصر الضرورية التي تحقق الأهداف المتوخاة من وراء ممارستها، وتحول دون التحول إلى ضحايا ضعيفة لها. يمكن تلخيص كل ذلك في النقاط الرئيسة التالية:

1- التقيد بالنسقية، وتحاشي العشوائية، كي لا تأتي المقدمات اعتباطية، وتلحقها النتائج الضبابية. مثل هذا التقيد المنهجي يضمن وضع المقدمات الصحيحة المستقاة من قراءة صائبة للواقع الذي يراد تقويمه، وتقود إلى نتائج سليمة مستخلصة من المطالعة غير المنفعلة للحقائق التي رسمت معالم ذلك الواقع. إنّ أي إخلال بالمنهجيّة في البداية، من شأنه أن يؤدي إلى نتائج وخيمة في النهاية، ويقود إلى طرق تكاد أن تكون مسدودة.

2- اللغة المستخدمة والألفاظ المنتقاة، والمقصود باللغة هنا هو التمييز بين تلك الهجومية ونقيضتها الدفاعية، فلكلّ مرحلة مفرداتها التي تلائمها، وموادها التي تناسبها. فما يصلح لمراحل الهجوم، يختلف كليّة عن ذلك الذي يناسب فترات الدفاع. والنبرات الحادة الجذرية في لحظة معينة قد تكون مدمرة إذ كانت الظروف المحيطة تتطلب بعض المرونة وشيء من المساومة. وما ينطبق على المراحل، ينطبق أيضا على القوى العاملة في المشهد السياسي، إذ لا بد للغة أن تحسن مخاطبة من يتلقون الرسالة.

3- الموازنة السليمة بين النظرة الشمولية الواسعة التي تبصر القضايا الكبرى التي تمكنها من رؤية الصورة كاملة، وتعينها على تشخيص مداخل فهم تلك القضايا وتناولها، دون إهمال القضايا الصغرى، التي ينبغي تحاشي الغرق في أوحال تفاصيلها، التي تحرف النظرعن معالجة ما هو أهم دون الإعراض عما هو أقل أهميّة. هذا يتطلب وضع مقاييس معالجة صارمة يبنى على أسسها جدول الأولويات وفقا للمكانة التي تحتلها القضايا التي يجري تناولها.

4- التوقيت الصحيح الذي يحدد زمن ممارسة هذا النوع من المراجعات الاستراتيجيّة، فما يفيد في مرحلة معينة، قد يكون ضارًا في زمن آخر. وهذا يتطلب تحديدا ثاقبا دقيقا قادرا على اختيار اللحظة التي تبدأ فيها عملية المراجعة، واللحظة الأخرى التي تنتهي عندها، كي لا يستفيد منها الخصوم أو المنافسين على الصعيد الخارجي، ولا تثير المزيد من الإرباكات على المستوى الداخلي.

5- الأهداف المتوخى تحقيقها من تلك المراجعة، فمن الأخطاء القاتلة لأية قوة سياسية، أن تكون المراجعة هدفا في حد ذاتها، أو أن تكون وسيلة من أجل إرضاء الذات أو إراحة الضمير، والأسوأ من هذا وذاك، عندما تتحول العملية إلى نوع من السادية التي يحلو لها جلد الذات، والتلذذ بالألم واستساغة المعاناة. فأي من تلك الأهداف، تضع على العين غشاوة سميكة تحول دون رؤية الواقع على نحو سليم، وتحرم القوى السياسية من الفوائد التي تريد جنيها من وراء الوقفة النقدية التي تمارسها بحق ذاتها.

6- الرسالة المراد بثها، سواء للقوى المنظمة التي شاركت في العملية السياسية، أو الجماهير التي التفت حولها وشاركت فيها، أم الخصوم والمنافسين ممن مستهم تلك العملية. وهنا تأتي الحنكة السياسية المنبثقة من خبرة غنية في العمل السياسي التي بوسعها تحديد مكونات تلك الرسالة والمواد التي تحتويها، وطرق بثها، وقنوات توصيلها لمن لديهم علاقة بها، وأخيرا وليس آخرا الهدف المرجو من وراء الإفصاح عنها.

7- الجهة التي تتصدى للكشف عن النتائج التي توصلت لها تلك الوقفة النقدية، سواء كانت تلك الجهة فردا أم مؤسسة، فالتجارب أثبتت أن ما هو مقبول من جهة معينة، ويلقى استحسانا في صفوف من تخاطبهم مكونات تلك الوقفة، قد يكون مرفوضا وتأثيراته سلبية عندما تفصح عنه جهة أخرى، بغض النظر عن المكانة التي تتمتع بها تلك الجهة، سواء الاجتماعية أو التنظيمية في حالة الأفراد، أو السياسية في وضع اللجان.

8- الظروف المحيطة، فما هو مناسب في مرحلة معينة، قد يكون غير ملائم في أطوار أخرى. هذا يتطلب نظرة خبير قادرة على تشخيص هذه الظروف واختيار ما هو السلوك الأفضل الملائم لها.

هذه المكونات تشكل منظومة متكاملة، غير قابلة للتجزئة، بل ربما الأمر يكون مدمرًا، والنتائج وخيمة عندما يجري انتقاء البعض منها، وإلغاء الأخرى. أو حتى عندما يتم تنفيذها على دفعات.

ولعلّ ما شاهدناه من تعثر بعض الوقفات النقدية، بغض النظر عن صفاء نية من مارسوها، يعود في جوهره، إلى إلغاء أحد مكونات هذه المنظومة، أو الإخلال بأي منها على حدة.

تعليق عبر الفيس بوك