يكاد المثقف أن يقول خذوني!!

جمال القيسي

أزعم أنّ السواد الأعظم من اليساريين العرب لم يكملوا قراءة فصل واحد من كتاب كارل ماركس، رأس المال، (حقا هو سواد أعظم). ورغم ذلك تعالى هؤلاء اليساريون الأفذاذ على الناس، بتأويل ما سمعوا به عن رأس المال، لا ما قرأوه ودرسوه، فشيطنوا الدين، وخلطوا النظرية الاقتصادية الطبقية بالعلمانية بالشيوعية بالاشتراكية بتقمص الإلحاد واللاأدرية و.. و.. وما لا يحصى ولا يحصر من صور الخروج على ما يفترض أنّهم فهموه، وانتموا له واعتقدوا به ووقر في قلوبهم. وها هم يوغلون في التموضع والانكفاء، المكشوف لكل ذي بصيرة، مقدمين صورة مؤسفة ومؤسفة ومؤسفة. وبغير "الدين أفيون الشعوب" لا يتبجح هؤلاء، حتى لو تعرضوا لنقاش بسيط، أو احتك بهم "أحد العوام"، حسب نظرتهم الطبقية الثقافية النخبوية! ولا شك أن ما قوّى موقفهم هذا- إن كان موقفا- هو ضآلة دور المثقف الطليعي العضوي في المجتمعات العربية، إن لم نقل غيابه، وهو المثقف الذي من أبسط مهامه وأولاها، تجشم عناء التوضيح المعرفي بأن ماركس لم يقدم، مطلقا، في رأس المال، نظرية للدين بالمعنى الجدلي، ولم يناصب الدين العداء، وكان يقدم الدين بصورة تفسيرية لا إقصائية أو تهميشية!

ولكن المثقف العربي الطليعي العضوي، منفصم ومنقسم على نفسه في عالمنا العربي، ومن زمرته كتاب وشعراء ومثقفون محايدون! (لا أدري كيف يمكن لمثقف أن يكون محايدا).. كل ذلك يجعلنا نجهر بالقول وننشد لهم بمرثية: ألا يا معشر الكتاب بالله فاسمعوا. ألا يا معشر الشعراء بالله فانصتوا .. أيّها المثقفون مهلا مهلا. حنانيكم، وتبا، لكن جميل أن تقرروا الاستماع والإنصات؛ وأن تتمهلوا؛ فالناس ملت وهم احتكاركم للكلمة.. لأنكم أيها السادة المحترمون أكثر من خادع الجماهير والشعوب؛ وأنتم أنفسكم، لا سواكم، من تسلقوا سنام "إمكانية تحقق اللحظة التاريخية"؛ ثم تمترسوا، من بعد ذلك، بالطائفية، والقطرية، وخصوصية حتمية اللحظة الراهنة، التي طربت لها الأفئدة المثقفة، وكأنها شاركت في صناعتها، ولكن بعد ذلك أنتم أيها السادة من مارس الادعاء بعقم اللحظة التاريخية.

كان الشارع العربي أبلغ منهم غضبًا وإنجازًا وحلمًا ولحظة تاريخية، وما كانوا بلغاء، لا غضبًا ولا إنجازًا ولا حلمًا ولا حتى عُشر لحظة تاريخية. وحين حُمّ الأمر، ودهمنا الخريف وتناوشتنا المصائب، انبروا ينظرون لمفهوم الدولة العميقة، وارتهنوا واستراحوا فيء راحة الثورة المضادة، وكفى الله المثقفين شر الاضطلاع بمهامهم التنويرية الجليلة!

إن قلنا لهم ثارت الشعوب قالوا: (لبيك أيتها الثورة؛ هذا دورق القهر، لمّا يمتلئ يفيض عصيانا وغضبا وثورة. وهذه سنة الكون أيها العوام لماذا تستغربون من أنفسكم أنكم صنعتم ثورة)!. ولمّا اغتيلت، على غير يد، الثورات التي غنوا ورقصوا لها مع (العوام) كأنهم أهل العريس قالوا الآن (تكشف الأمر: المسألة كلها مؤامرة. هذا مخطط أمريكي إسرائيلي مدروس. رسمته لهم الماسونية العالمية. ألم تسمعوا بحكماء بني صهيون)!

ألا تبا لهذه الطبقات حين أمست لا تقتات إلا على ما نسيه الزمن، وتكلست حتى لم يعد يرجى منها الأمل، وإذا ما وضعت أمام إشكاليات كبرى للتنظير؛ فإنّ أقصى اجتراحاتها تبدو مثيرة للغثيان؛ بربط الحلول باختلاف مواقف الدول، أو لحظة نورانية قد تقع في قلب رئيس دولة عظمى، فترى في رأفة هذا القلب الرئاسي حلا لاتساع المحيط ولؤلؤ الخليج.

ألا بئست المرحلة، ويا لبؤس خيارات السلطة في الربيع والخريف وهي أكثر سوداوية ورمادية. ويا لهناءة الروح بوجود خيارات مذهلة للثقافة تفوّقت على خيارات السلطة.

لا نبتغي منكم شيئًا.. كفى!

تعليق عبر الفيس بوك