نقد الحال الراهن ("6" الاختلاف)

د. صالح الفهدي

ما إنْ بدأت المناظرة التليفزيونية بين شخصيتين امتدَّ الحوار بينهما أكثر من حلقةٍ تليفزيونية، حتى هلَّل المذيع وكبَّر للأمر الذي تلقّاهُ أثناء بث الحلقةِ من إدارة القناة بإيقافِ الحلقة المباشرة؛ نظراً لرأيٍ أبداه أحد الضيفين في الحلقة السابقة فأرادوا الإيقاعَ به، فإذا بالمذيعِ يُعلنُ عن نجاح الفخِّ الذي أُوقعَ فيه الضيف ليكيلَ له التُّهم والشتائمَ، ويحتقرهُ ويستصغرهُ ويذمّه دون أن يمنحه فرصة الردِّ بل ويوصي كل من يتقي الله ألا يتيح له مجالاً للظهور...!

ولو تدبَّر هؤلاءِ الذين أعلنوا انتصارهم في الأمرِ لوجدوا أنهم المنهزمون ديناً، وأدباً، وأسلوباً، وفكراً، بغضِّ النظرِ عن الموضوع المطروح للمناظرةِ والرأي فيه، وأنهم هم الذين خالفوا الله في منهاجهم؛ وذلك في معرضِ أمرهِ سبحانه لنبيه الكريم: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (النحل:125) وقوله سبحانه: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ" (الحج:24)، وكذلك قوله عز وجل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً" (الإسراء:53)، وقول رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء".

قلّما تشاهدُ أو تستمع لمناظرةٍ بين مسلميْن يبحثانِ فيها عن نقاطِ الالتقاءِ، والاتفاقِ، والأرضيات المشتركة، بل يهرعانِ إلى النقاط الساخنةِ التي توغر الصدور بالشحناءِ، وتحقنها بالبغضاء. تعلو الأصوات، وتهدرُ، وترغي وتزبد، وكأنّما الطرفان يتبارزان في ميدانٍ بالسيوفِ والحِرابِ، أو يتقاذفهما الموجُ في بحرٍ متلاطم الثبجِ وهما يتصارعان..! مشاهدَ تؤلمُ المسلمَ الذي يريدُ أن يُريَ العالم تحضُّر المسلمَ في أُسلوبه الراقي، وحديثهِ المتوازنِ، وشخصيتهِ الهادئةِ، وحججه المنصفة التي يأملُ منها نصرة الحقِّ لا تحقيق نصرٍ شخصي يحملهُ على قذف الخصم بالشتائم واتهامه في نواياهُ، وتحميل مواقفه ما لا تحتمل.

كَمْ تؤلمنا هذه المناظرات المحتقنة التي ما إنْ تبدأ حتى تندلقَ منها نيرانُ الحقدِ، والكراهيةِ، والثأرِ، والانتقام من الآخر، وكأنّما الآخر ليس مسلماً يوحِّد الله، بل حتى وإن كان ليس كذلك فإن لجدالهِ أدباً، ولنقاشهِ خُلقاً، ولحواره إحسانا.

لقد ضرب هؤلاءِ الذين ادّعوا أنهم أهل الحقِّ والصوابِ بقول ربّهم وهو يضربُ لهم المثل في بني إسرائيل لما جاءتهم رسلهم بالبينات والعلم تفرقوا واختلفوا، فنهانا الله تعالى عن سلوك سبيلهم: "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" (المؤمنون:53).

وتحذيره سبحانه لهم من نتائجِ الشقاق والاختلاف: "وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (الأنفال:46). وتحذير نبيّه الكريم من عاقبةِ الاختلاف البغيض في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

... إنَّ الاختلاف في مجتمعاتنا الإسلامية هو سبب كبير من مسببات الشقاق والفرقة بين المسلمين، وما دعوات الحوار الإسلامية، وتقريب المذاهب إلا بسبب الشحنِ واللعن الذي يتبادله الخصوم..! نسوا الله فأنساهم أنفسهم لأنهم لم ينتصروا لأجلِ الحقِّ بالحوار الهادئ المعتدل، بل اعتمدوا لغة الحوار المتشنّج، وأسلوب التحريض، ولغة إثارة النعرات والعصبيات المذهبية والطائفية والعرقية...!

... إنَّ هذه الحوارات المتشنجّة هي التي دفعتْ أبناءَ الإسلامِ إلى التخاصم، والتلاعن، والتقاتل، فهي لم تضع مصلحة الإسلام نصب عينيها وإنّما وضعت المذهب الفلاني، أو المطمح الفلاني أو العرقية الفلانية، وهذا ما أدّى بالنفوسِ إلى الإعراضِ عن الحقِّ حتى وإن كانوا يعلمون أنهم على باطل..! إنّها عصبية الجاهلية..!

وفي هذا المعرض من القول، يُوجز الداعية الإسلامي الحبيب علي الجفري أسباب الفرقة والشقاق في الأمة الإسلامية في 3 أسباب:

1- الطائفية: (سُنة وشيعة، مسلمون ومسيحيون.. إلخ). وجذورها تعود إلى ما أسماه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "داء الأمم".. قال سيدنا صلى الله عليه وسلم: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبَغْضَاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشَّعر، ولكن تحلق الدِّين...". وعلاجها: نشر السلام والمحبة كما في تكملة الحديث: "... والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يثبِّت ذلك لكم؟ أفشوا السَّلام بينكم".

2- العنصرية (عربي وفارسي وكردي وأمازيغي ونوبي، هاشمي وقحطاني، نجدي وحجازي ويماني، بدوي وحضري، أسود وأبيض... إلخ). وجذورها تعود إلى ما أسماه سيدنا صلى الله عليه وسلم "دعوى الجاهلية".

3- الغثائية أو اللهث خلف الأطماع الدنيوية (المال، السلطة، المغالبة). وجذورها تعود إلى ما أسماه سيدنا صلى الله عليه وسلم "الوهْن". قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ".. وليقذفن الله في قلوبكم الوهْن". فقال قائل: يا رسول الله وما الوهْن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

ويوصي الجفري في ختامِ حديثه بالعلاج القرآني لهذه البلايا المقيتة وذلك بـ"تزكية النفوس".

إنني لأرى أنَّ الحبيب علي الجفري أحد النماذج الإسلامية المشرّفة التي حاورت وناظرت بكل موضوعية وحيادية وعقلانية باحثاً في كل حواراته عن نقاط الاتفاقِ، آسراً محاوره بطريقة حواره الرائعة التي تظهر الخيرَ والجمالَ والحقّ فيه لا تتصيّد أخطاءه، وتعرّي زلاّته، وتفضحُ معايبه..! يقول الشيخ الجفري في إحدى مناظراته "إن سعادتي باهتداء (الطرف الآخر) للحق إن كان على خطأ، أحب إليَّ من الفوز في مناظرته، كما أنَّ سعادته باهتدائه للحق إن كان على خطأ أحب إليه أيضًا".

فما تابعتُ حواراً له مع مسيحي أو ليبرالي أو علماني أو ناشط، إلاّ وكان الحوارُ على درجةٍ مُثلى من الرقيِّ، ودرجةً فضلى من الرفعة، وهو في نظري نموذج للداعية الإسلامي الذي يجدر الحذو على خطى فكره، ومنهجه، ونفسيته، وعلمه.

... إنَّ للاختلاف آدابه التي لا تنطلقُ من الانتصار للنفسِ، بل لنية اتباع الحق أيّاً كان مصدره، ومنزله، وكلّما ارتقت الأنفس فوق المصالح الجهوية، واعتلت فوق العصبيات والعنصريات والمذهبيات، رأت الحق جليّاً ناصعاً، أو أنها اتسعت صدراً، وزكت جناناً من أجل أن تصلَ إلى عوامل الاتفاق الكبرى، وروابط الاعتصامِ العظمى، وهذا الأمرَ -أي أدب الاختلاف- يبدأُ من البيتِ الأسري، وينمّي في المدرسةِ، ويطوّر في المؤسسات المجتمعية.

تعليق عبر الفيس بوك