الصحافة العربية من وهم السلطة إلى سلطة الوهم!

ناصر أبو عون

في مُحاضرة لي أمام طالبات السنة النهائية بقسم الإعلام في جامعة عُمان، طرحت سؤالا عليهن يستقصي دوافع دراستهن للإعلام؛ فأثار فضولي تمحور معظم الإجابات حول رغبتهن في "تغيير المجتمع"؛ حيث اقتنعن بأنَّ "الصحافة سلطة رابعة". ولأن هذه المقولة تنطوي على كثير من "الكذب والخداع والمغالطات الفكرية والقانونية"، أنتهز فرصة احتفاء الصحفيين باليوم العالمي لحرية الصحافة والذي تحلُّ ذكراه سنويا في الثالث من مايو لتفنيد بعض "الادعاءات الكاذبة"، و"المقولات الخادعة" التي يروّج لها بعض المنتسبين لمهنة الصحافة، أملا في الحصول على جزء من الكعكة التي توزّعها الشركات، وأخذ نصيبهم من منح وعطايا بعض الحكومات حول العالم، والمطالبة بتمويل بعض المؤسسات الصحفية والإعلامية تحت تهديد "القلم".

ومن ثَمَّ نشاهد بعض الصحفيين لا يرتاح لهم بال ولا يهدأ لهم خاطر، ويرددون في العديد من المناسبات مصطلحات عديدة "ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب" فالبعض منهم يملأ الدنيا ضجيجا وبكاءً على "افتقاد وطنه لأدنى معايير الحرية"، ويشكو من "القيود القانونية على حرية التعبير"، ونرى البعض الآخر يصدّر للقراء أفكاره الظلامية، ويرفع داخل كل مقال يدبجه لافتة مكتوب عليها: "تقدم المجتمعات مرهون بإطلاق الحرية"، وتسوّق ثلة أخرى لمقولة: "تقدّم المجتمعات يبدأ بإطلاق حرية التعبير بلا قيود"، وينسون -بل يتناسون- أنَّ "الحرية" في حقيقتها "ليست مطلقة" وإلا انتهينا إلى "فوضى عارمة" تأكل الأخضر واليابس؛ ولا يفوتوني هنا أن أنقل للقراء مقولة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون متوعدا مثيري الشغب في المملكة المتحدة قائلا: "عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، فلا يحدثني أحد عن حقوق الإنسان".

والحقيقة؛ نحن لسنا دعاة "استبداد"، بل من المنادين بالحرية التي تبني لا تهدم، وترقى بالبشر والمجتمعات إلى الغايات الأسمى من الوجود الإنساني، ولا تأخذنا إلى أسفل سافلين من الانحطاط الغرائزي؛ فالحرية "نسبية"، و"مشروطة"، و"أخلاقية"، و"منظمة"، و"مقننة"، و"مضبوطة"، ومن أهم هذه الضوابط القانونية التي أجمع عليها المشرِّعون -في جميع الدساتير والنظم السياسية الحديثة- حول العالم، وتمّ إقرارها في سبيل تقنين حرية الصحافة والإعلام:

1- ضوابط أجازها المشرِّع لتقييد الحرية في زمن الطوارئ أو الحرب في الأمور التي تتصل بالسلامة العامة والأمن القومي، على أن يكون ذلك بقانون.

2- ضوابط أحالها المشرع إلى التشريع العادي لئلا ترقى إلى درجة تقييد الحرية أو مصادرتها.

3- ضوابط موضوعية تضمنتها الدساتير وقوانين المطبوعات والنشر، واتفقت عليها الأعراف والتقاليد السياسية كالنص صراحةً على أن تمارس الصحافة رسالتها في إطار المقومات الأساسية للمجتمع والحفاظ على الحقوق والحريات وحرمة الحياة الخاصة.

ومن القضايا الأخرى التي يُروِّج لها بعض الصحفيين قولهم: إن "الصحافة سلطة رابعة"، وهو قول ينقضه المنطق، ويرفضه العقل، وما زال هناك جدل واسع في سائر الأوساط -شرقا وغربا- حول نسبة هذه المقولة إلى قائل محدد، إلا أن اتفاقاً واسعاً ينعقد حول دور المؤرخ الأسكتلندي توماس كارليل في إشهار المصطلح؛ وذلك من خلال كتابه "الأبطال وعبادة البطل" (1841) حين اقتبس عبارات للمفكر الأيرلندي إدموند بيرك؛ أشار فيها الأخير إلى الطبقات الثلاث التي تحكم البلاد ذلك الوقت (رجال الدين، والنبلاء، والعوام) عندما اتجه إلى مقاعد الصحفيين، في مجلس العموم البريطاني، وهو يقول "أنتم السلطة الرابعة"، أو قال: "توجد سلطات، ولكن عندما ينظر الإنسان إلى مقاعد الصحفيين، يجد السلطة الرابعة"، بما لها من أهمية اقتصادية، واجتماعية، وسياسية جعلتها جزءاً من الحياة الديمقراطية. وثمة رأي آخر مفاده أن تسمية الصحافة بالسلطة الرابعة ترجع إلى المؤرخ البريطاني توماس ماكولاي، المتوفى عام 1859؛ إذ قال: "إن المقصورة التي يجلس فيها الصحفيون أصبحت السلطة الرابعة في المملكة".

ومهما كانت مكانة قائل العبارة، إلا أنها تنطوي على عدّة مغالطات فكرية وحان الوقت لمحاججة المنادين بها ومجابهتهم بحكمة القانون ومواثيق الأخلاق المهنية والقوانين التي أقرت حق المساواة بين سائر المهن والمواطنين، وللبرهنة على ادعاء وخداع مقولة "الصحافة هي السلطة الرابعة" يُمكننا التأمل في ماهية المهنة الصحفية وتفنيد الآراء الواردة فيها لبيان الحق وجلاء الحقيقة. ونقدها علميا. ومن الأدلة التي تنقض هذه المقولة وتفنّد خديعتها وأكاذيبها وتضليلها نسوق جملة من البراهين حتى يقتنع القارئ والمتخصص والقانوني بما نحن عليه من يقين في هذا الشأن ونعلنها صريحة "الصحافة مهنة وليست سلطة"، وحُجَّتنا ظاهرة واضحة لا لبس فيها ولا مدارة أو تدليس:

أولا: الصحافة ليست سلطة لأنها ليست جهازا من أجهزة الحكم. ومن خصائص أجهزة الحكم أنها تصدر قرارات نهائية وملزمة دون الرجوع إلى سلطة أخرى ولا تخضع لموافقة أو تصديق سلطة أخرى.

ثانيا: السلطة تقوم على مبدأ (الوحدة والانسجام) وهي صفة غير متوفرة في الصحافة والقول بأنّ الصحافة سلطة يحولها إلى جهاز من أجهزة الحكم في الدولة وينفي عنها "الحرية والتعدد والاختلاف".

ثالثا: إنَّ المتفق عليه في العالم الحر أن هناك سلطات ثلاث فقط هي "التنفيذية التشريعية" ثم "سلطة قضائية" جاءت لتكون حكما بين الاثنتين ومنع تغوّل سلطة على أخرى واصطلح على إطلاق لفظ "سلطة عامة" على كل هيئة منها؛ لأن السلطة لازمة من لوازمها؛ لأن سلطان كل منها ينبسط على رقعة الدولة كلها. وهي لا تستمد سلطانها من سلطة أعلى منها، بل تستمده من الأمة نفسها.

رابعا: إنََّ السلطة في اللغة هي "التسلط" و"التحكم" و"السيطرة"، وهي من مادة "سلط" أي أطلقَ له السلطان. والسلطان يطلق على "الحاكم" كما يطلق على القوة والقهر. والسلطان بمعناه الثاني دعامة من دعامات الدولة وركن من أركانها. ولما كانت الدولة شخصا معنويا؛ فقد لزم أن ينوب عنها في ممارسة سلطانها هيئات تختلف باختلاف وجوه نشاطها.

خامسًا: إنَّ الصحافة لا تعتمد على سلطان الدولة -طبقا لتعبير الدكتور مرعي مدكور- بل تعتمد على ما تقدمه للناس من آراء وأنباء، ونشاطها في هذا الاتجاه خارج إطار الدولة لا داخله، مثلها في ذلك مثل الاتحادات والنقابات...وغيرها من منظمات المجتمع المدني التي تستخدم آليات التأثير في الرأي العام.

سادسا: إنَّ الصحافة في العالم الحر مهنة حرة وكونها حرة يعني أنها مفتوحة الأبواب لسائر الأفراد والجماعات؛ شأنها في ذلك شأن المهن الحرة كالطب والمحاماة، وهي الوحيدة من بين هذه المهن التي نصَّت دساتيرنا كلها على كفالة حريتها بهدف حماية حرية الصحافة من الدولة؛ لأنَّ الدولة هي وحدها التي تملك أن تفرض الرقابة على الصحف وهي وحدها التي تملك أن تنذرها وأن تعطلها.

وإذا افترضنا جدلا -وهو افتراض مناقض للحقائق العلمية- ضرورة إقرار قانون يعتبر "الصحافة سلطة رابعة"، إضافةً إلى السلطات الثلاث الأساسية (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية)، فإنَّ هذا الفرض مرهون تحقيقه بشروط ثلاثة من الصعب تحقيقها؛ فلكي تكون الصحافة سلطة لا بد أن تتوافر فيها الشروط التالية:

أ- أن تكون مُختصة بحكم النظام؛ بأن تؤدي وظيفة من وظائف الدولة.

ب- أن يكون لها بحكم وظيفتها أن تأمر وتنهى.

ج- أن تكون أوامرها ونواهيها في حدود اختصاصها مكفولة النفاذ بسلطان الدولة القائم على القهر والإرغام.

ومهما انطوى الأمر على بيانات "مفخخة" أو ادعاءات "كاذبة"، يروّج لها بعض الصحفيين هنا وهناك من أجل الحصول على موطئ قدم في "السلطة" داخل نسيج المجتمع فلن تتوقف مهنة الصحافة عن "تنظيف نفسها بنفسها"، والدفاع عن المبادئ الأساسية لحريتها، وتقييم هذه الحرية حول العالم، والدفاع عن وسائل الإعلام ضد ما يهدد استقلالها، والتعبير عن الإجلال للصحفيين الذين فقدوا حياتهم أثناء ممارسة عملهم. وعلينا كصحفيين أو كُتّاب الاحتفال كل عام في يوم الثالث من مايو بالذكرى السنوية لإعلان (ويندهوك 1991) والترويج والتطبيق لوثيقته الداعية إلى إيجاد وسائل إعلام مستقلة وحرة وقائمة على التعددية في جميع أنحاء العالم، واعتبار الصحافة الحرة أمرا لا غنى عنه لتحقيق الشورى وحقوق الإنسان.

والاحتفال بهذا اليوم يُمثل لنا كصحفيين فرصة ذهبية تتجدَّد كل عام لتسليط الضوء على 4 محاور أساسية؛ هي: "الاحتفاء بالمبادئ الأساسية لحرية الصحافة، وتقييم حال حرية الصحافة في كل أنحاء العالم، والدفاع عن وسائط الإعلام أمام الهجمات التي تشن على حريتها، والإشادة بالصحفيين الذين فقدوا أرواحهم أثناء أداء واجبهم".

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك