جورج طرابيشي وكتاب (المعجزة.. سبات العقل في الإسلام)

صالح البلوشي

صدر كتاب (المعجزة. سبات العقل في الإسلام) للمفكر العربي جورج طرابيشي سنة 2008 عن دار الساقي بلندن، ويتطرق الكتاب لفكرة المعجزة في الإسلام من حيث نشأتها وتطورها وأسباب ظهورها. ويُعتبر الكتاب ضمن مشروع جورج طرابيشي الفكري/ النقدي (نقد نقد العقل العربي) -ردا على أطروحة (نقد العقل العربي) للمفكر الراحل محمد عابد الجابري - وإن لم يكن ضمن أجزائه الخمسة-، ويقوم هذا المشروع على قراءة نقدية للتراث العربي بشقيه السني والشيعي، بقصد إزاحة القداسة والقراءات التبجيلية عن التراث، وتحرير الفكر من هيمنتها، وإعادته إلى النسبي القابل لإعادة القراءة والنقد والتفكيك، وإعادة البناء؛ لتحرير الفكر من إطاره التاريخي التراثي، والانطلاق إلى عصر الحداثة. ولا شك أنّ التصدي لمثل هذه المشاريع الفكرية الضخمة؛ التي تستلزم سنوات طويلة من البحث والدراسة في مئات وآلاف الكتب التراثية والحديثة في مختلف فروع المعرفة المختلفة والمناهج العلمية الحديثة؛ يتطلب تحررًا كاملاً من التأثيرات الدينية والمذهبية المسبقة، ومعرفة عميقة بالتراث؛ ليس السني فقط، وإنما الشيعي والإباضي والإسماعيلي أيضًا. بالإضافة إلى معرفة عميقة بالأدوات المعرفية والمناهج العلمية الحديثة التي تساعد على الحفر في المناطق الشائكة في الفكر الإسلامي دون التأثر بالأحكام الأيديولوجية المسبقة، مثل علم الاجتماع، وأركيولوجيا المعرفة، والمنهجية الألسنية والسيميائية والبنيوية في قراءة النصوص، إضافة إلى منهج علم التاريخ الحديث وغيرها. طبعًا بالإضافة إلى الاطلاع على منجزات عصر التنوير الأوروبي وفتوحاته المعرفية والفلسفية وغيرها. وأزعم أن جورج طرابيشي استطاع في مشروعه النقدي التحرر من سطوة الأيديولوجيات الدينية والفكرية، والتسلح بتلك الأدوات النقدية في كتبه، ومنها هذا الكتاب الذي نتحدث عنه.

إذا رجعنا إلى الكتاب المذكور، فبغض النظر عن رأينا في ما طُرح فيه من أفكار؛ نجد أنّ المؤلف بحث في أسباب ظهور أدبيات المعجزة في الإسلام السني والشيعي على السواء، حيث يرى طرابيشي أنّ العامل الرئيس يتمثل بلا أدنى شك في إسلام الفتوحات، الذي أحدث تحولا جذريا في طبيعة الإسلام الأول، وتحديدا المكي منه؛ فهذا الإسلام قد بنى مصداقيته كما رأينا بالتمايز عن الديانتين التوحيديتين اللتين سبقتاه على معجزة واحدة يتيمة هي الإعجاز القرآني؛ ولكن هذه المعجزة العقلية التي مثلها الإعجاز القرآني ما كان لها من فاعلية إقناعية إلا عند أهل اللغة التي نزل بها القرآن أي العربية، والحال أن شعوب البلدان المفتوحة ما كان لها أن تعقل؛ لأنها كانت تجهل العربية جهلا تاما، وبانتظار أن تستعرب نخبها المثقفة ابتداء من النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، لذا ما كان لتلك الشعوب الأعجمية أن تأخذ طريقها إلى الإسلام اقتناعًا وليس فقط استكراها، إلا من باب المعجزات الحسية التي لم يكن ثمة مناص من أن تنسب إلى الرسول، ومن هنا يمكن القول -حسب المؤلف- إن تلك الشعوب هي التي فرضت بنيتها الدينية القديمة على الدين الجديد، وليس الإسلام هو الذي فرض عليها بنيته الأولى القابلة للوصف بأنها رسالة.

ويرى طرابيشي في كتابه أن صورة النبي صانع المعجزات غلبت في إسلام الفتوحات على صورة الرسول المكلف بأن يبلغ بلسان عربي مبين "قرآنا عربيًا لقوم يعلمون" (الشعراء 195). ويقول أيضاً: إن منظور التركيبة السكانية لبلدان الفتوحات ساهم في التحول الانقلابي في الإسلام من لاهوت الرسالة إلى لاهوت المعجزة، مع كل ما ترتب على هذا من تحول أيضاً من تشغيل نسبي للعقل بصدد المعجزة العقلية التي جسدها القرآن، إلى شلل مطلق للعقل في قبول المعجزات الحسية التي ستنسب إلى الرسول بالمئات بل بالآلاف.

وذكر أيضاً أن أدبيات المعجزات لم تنشأ وتتطور بعد إسلام أهل الصدر الأول والثاني فقط؛ بل كذلك أجيال متتالية من سكان البلدان المفتوحة، ولكن ليس بهذه السمة وحدها يفترق تاريخ المعجزة في الإسلام عنه في المسيحية، فعلاوة على خصوصية لحظة التمخض هذه لأدبيات المعجزة في الإسلام، فإن مسارها التضخمي يمثل خصوصية ثانية. فالحضور المركزي للمعجزة في الأناجيل وأعمال الرسل قد حال دون انفلات الخيال من عقاله، ودون اختلاق معجزات لم يرد لها ذكر في هذه النصوص التأسيسية، بالمقابل فإنّ الغياب التام للمعجزات النبوية في النص القرآني وللمعجزات الإمامية في النصوص التأسيسية الأولى؛ قد أطلق العنان للأدبيات المعجزية اللاحقة لتتخيل ولتفرط في التخيل. ويؤكد المؤلف هذه المسألة في كتابه "النشأة المستأنفة ص ح630 حيث يقول: "إن تغييب القرآن وتغييب العقل وتغييب التعددية في الإيديولوجيا الحديثية المنتصرة هو المسؤول الأول عن أفول العقلانية العربية الإسلامية، وعما قاد إليه هذا الأفول من انغلاق ذهني وحضاري أنهى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية ليدخلها في ليل الانحطاط الطويل". وهكذا لا تكون المعجزة في الإسلام قد انعتقت من أسر الواقع وحده، بل من أسر النصوص التأسيسية كذلك لتحميلها بشحنات متضاعفة من أدبيات "خرق العادة" لم تعرف المسيحية نظيرها مع أنها في الأساس - وبعكس الإسلام- ديانة معجزات.

كما يرى طرابيشي أنّ الإسلام هو أقرب الديانات إلى العقلنة والحداثة؛ بسبب أنه لم يقم على منطق المعجزة إلا بعد التضخم الروائي الذي شهدته عصوره الأخيرة منه وبفضل الرواة المتأخرين؛ وبسبب ذلك دخلت الحضارة الإسلامية في طور انغلاق ونكوص لا عقلاني، على عكس المسيحية التي كانت ولا تزال تبني أسسها ومنطلقاتها على فكرة المعجزة ابتداء من قيام المسيح إلى معجزات القساوسة والرهبان والبابوات.

ومن الجدير بالذكر أن جورج طرابيشي ليس هو الوحيد الذي انتقد التضخم الروائي للمعجزات المنسوبة إلى الرسول، فقد سبقه إلى ذلك الكثير من مفكري الإسلام الكبار اعتبارًا من المعتزلة وفلاسفة الإسلام أمثال ابن رشد في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة" ص 179 الذي قال "...فخارقه صلى الله عليه وسلم الذي تحدى به الناس وجعله دليلاً على صدقه في ما أدعى من رسالته هو الكتاب العزيز"، وانتهاءً بمراجع كبار في الدين أيضًا أمثال السيد محمد حسين فضل الله، والمفكر الإيراني الراحل علي دشتي، والمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري الذي ذهب أيضًا - تماما مثل طرابيشي- بأن القرآن الكريم هو المعجزة الوحيدة للرسول عليه الصلاة والسلام وذلك في كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم"وغيرهم.

تعليق عبر الفيس بوك