قيمٌ في رحاب سبلة عُمان

 حاتم الطائي

 مُتعة استثنائيَّة تلك التي تشعر بها وأنت تجلس في رحاب "السبلة العُمانيَّة" في هذا الفضاءِ الطلق؛ تحيطُ بك أجواء من المودة والتراحم والترابط بين مُختلف أبناء المُجتمع العُماني... إنها مدرسة تتعانقُ فيها آراءُ الحكماء مع حماسة الشباب، ويتمازجُ فيها الحدث اليومي مع الإبداع الأدبي والحكي الشعبي.

هذا الشعورُ المُفعم بالأصالة والمُغرق في تفاصيل حياتنا العُمانيَّة، يُعيد للأذهان دورَ "السبلة" كأحد مُفردات ومُكونات الثقافة العُمانيَّة؛ فمنذ زمنٍ بعيدٍ لعبتْ "السبلة" دورًا محوريًّا بارزًا في تكوين الشخصيَّة العُمانيَّة، في وقت لم تكن لدينا مدارس عصريَّة كما هو اليوم؛ فقد كانت "السبلة" هي المدرسة التي رسَّخت في أذهان النشء العادات والتقاليد الرصينة التي ميَّزت الشخصيَّة العُمانيَّة عن غيرها.

هذا الدور الحيوي للسبلة بدأ يتوارَى مع هجمة التكنولوجيا على حياتنا اليوميَّة واحتلالها جزءًا كبيرًا من تفصيلاتها، بل يُمكن القول بأنها أصبحتْ المُساهم الرئيس في تشكيل الثقافات والهويَّة للجيل الجديد، الذي ينسلخ رويدًا رويدًا من قيمه المجتمعيَّة وتتبدَّل عاداته وتوجُّهاته الفكريَّة ليحل محلَّها الوافدُ الجديد عبر أدوات ووسائل التكنولوجيا التي أصبحتْ مُلازمة لـ"راحة اليد" لا تكاد تفارقها حتى أثناء الأكل وعلى فراش النوم.

واليوم؛ تُعيدنا "أيام الحواضر والبوادي" تلك الفعاليَّة المُبتكرة في طريقتها، الهادفة في مضمونها، والتي أطلقتْ وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة المرحلة الأولى منها مساء الأربعاء الماضي، بمسقط، وبعدها تنتقل إلى صلالة، في مرحتلها الثانية -تعيدنا- إلى ذلك الزمن الجميل بنسماته العبقة، وإشعاعاته الحضاريَّة الفريدة؛ لتغرسَ من جديدٍ قيمًا في طريقها للاندثار؛ تحت وطأة الحداثة والتكنولوجيا، وتضع الشباب العُماني على الطريق من جديد لينسجمَ مع عمقه الحضاري ورسالته السامية التي يتحملها من قديم الزمان في نشر السماحة والمحبة وإقرار السلام بين شعوب الأرض.

... إنَّ جيلنا الجديد حريٌّ به أن يعي أنَّ له موروثاً ثقافيًّا وحضاريًّا ضاربًا في عُمق التاريخ ومُمتدًّا ومتفاعلًا مع حضارات العالم المختلفة.. وقد جاءت الرسالة الإسلاميَّة السمحة لتقر حضارتنا، بل وتطلب منها أن تكون عوناً لهذا الدين الخالد. وما رسالة النبي محمد -صلي الله عليه وسلم- لأهل عُمان، والتي دعاهم فيها إلى الدخول في الإسلام، إلا تكليفٌ لهذا البلد الطيب أن يُسهم بما له من رصيدٍ حضاريٍّ، وعلاقات تجاريَّة، ووشائج اجتماعيَّة مع حضارات مجاورة، في نشر تعاليم الإسلام ومبادئه. وهو ما استوعبه أهل عُمان؛ فتخطوا المعني الظاهري للرسالة التي خطها النبي محمد -صلي الله عليه وسلم- لهم، وانبروا مُطبقين للمعني الأشمل والأعم لهذه الرسالة.

ومن الماضي إلى الحاضر، نجد أنه في ظل ثورات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتتابعة، وما رافقها من ابتكارات لمواقع التواصل الاجتماعي  فيس بوك وتويتر...وغيرها من  المواقع الاجتماعيَّة التي أفرزت قيمًا جديدة، وشكَّلت نوعًا من الازدواجيَّة الثقافيَّة لدى شبابنا وشاباتنا، وأدت إلى اتساع الفجوة بين الأجيال نتيجة الصراع بين القيم التي يتمثلها ويدعو لها الآباء، في حين ينظرُ إليها الأبناءُ كموروثات تجاوزتها مُخرجات الثورة المعلوماتيَّة، أصبح الاتجاه نحو تعميق القيم وتعليمها أمرًا ملحًّا، ومطلبًا مُجتمعيًّا للحفاظ على كينونة المجتمع وهويَّته الثقافيَّة وجذوره الحضاريَّة.

... إن الانفجار المعرفي الهائل والتوسُّع المضطرد في موجودات الشبكة العنكبوتيَّة العالميَّة، من فيديوهات ومكتبات صوتيَّة وألعاب إلكترونيَّة، ومنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي المُختلفة، والتسهيلات الهائلة في مجال الاتصال والتواصل مع الآخرين عبر الصوت والصورة في شتَّى بقاع العالم ليدفع التربويِّين والمنظرين الاجتماعيِّين لصياغة مبادئ عامة، تشكل قاسمًا مُشتركًا لتدريس القيم، واقتراح السبل والاستراتيجيَّات التي تضمن تمثلها للمحافظة على كينونة المُجتمع وضمان استقرار بنائه النفسي والاقتصادي والاجتماعي، وكافة المحاور الكفيلة بضمان خصوصيته وتماسك أفراده.

كما أنَّ إعادة غرس القيم الإيجابيَّة في نفوس الشباب والأجيال الناشئة من شأنه أن يدفع بمسرتنا التنمويَّة إلى الإمام، ويُعزز من الأمن والسلام الاجتماعي؛ فالقيم -ودون مبالغة- صمامُ أمانٍ في المجتمع، وأبرز عوامل بقاء الأمم -كما وصفها أمير الشعراء أحمد شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا- ولذا أقول: إن عمليَّة بناء القيم عمليَّة دائمة ومستمرة لا تتوقف؛ لأنها تسعى نحو البناء والصلاح في كافة نواحي الحياة، وهي مسؤوليَّة الجميع؛ تبدأ من الأسرة ولا تنتهي بالمدرسة والعمل؛ فالجميع مُطالب ببث ونشر القيم الفاضلة كلٌّ في مجاله واختصاصه.. ومن الأهميَّة أن نكون قدوة للآخرين.

وعلينا الآن -وليس غدًا- تعزيز دور القيم في حياتنا وفي مجتمعنا والدور الأساسي يقع على الجميع، وليس على وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة أو وزارة التراث أو وزارة الإعلام وليس الحكومة فقط، وإنما نحن جميعًا مسؤولون عن إرساء القيم في مجتمعنا، خاصة عند الشباب والمراهقين؛ لأنهم هم المستقبل، وسيكونون قيادات في قادم الوقت، وعلينا أن نركز على التواصل الحضاري بين الأجيال، وأخاف -كلَّ الخوف- أن تكون هنالك فجوة أو سوء فهم وأولويَّات مُختلفة في المجتمع ما بين الشباب والجيل الحالي، ونحن نأمل أن يكون التواصل الحضاري أقوى بالمجتمع والجميع مُطالب بأن يُعزز هذا الدور، خاصة الأسرة والآباء مسؤولين مسؤوليَّة كبيرة جدًّا عن تأصيل القيم وتفسيرها لدى أبنائهم.

وإذا كانت البحوث التربويَّة تؤكد على أن الإنسان يتشكَّل في السنوات الخمس الأولى؛ وهي أهم مرحلة في تكوُّن الإنسان، وندرك أن هذه السنوات يكون الطفل فيها في البيت؛ وهنا يجب أن يكون الأب والأم هم القدوة لأبنائهم.

وختامًا؛ فإنني لست من دعاة الانعزاليَّة عن التكنولوجيا وأدواتها، لكنني من المؤمنين بضرورة ترشيدها بما يعودُ بالنفع على أمتنا ويؤصِّل لقيم وعادات أصيلة تحيي في النفوس حبَّ الخير والعدل والسماحة، وتنشر الوئام في المجتمع الإنساني، وتعمل جنبًا إلى جنب مع روافد التثقيف والتعليم في بلادنا على إعادة قيم "السبلة" في نفوسنا، إن تعذر أن نعيدها فعليًّا في شكلها التقليدي ومبناها القديم.

... "أيام الحواضر والبوادي" التي ستزور جميع المحافظات في الفترة القادمة، من المبادرات الخلاقة، والتي يُعوَّل عليها كثيرًا في فتح قنوات للحوار والتواصل بين الأجيال، واستعادة القيم عبر التفاعل بين مختلف أطياف المجتمع لتعزيز الأسس الحضاريَّة للنهضة العُمانيَّة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة