مَنْ كان يتصوَّر أن "الربيع العربي" الذي بدأ بأهازيج الحريَّة، والتغزُّل في الديمقراطيَّة (هذه الحسناء التي خرجت الجموع في أكثر من بلدٍ عربيٍّ خاطبةً وُدها، ومُقدِّمة في سبيلها الغالي والرخيص)، سيتحوَّل إلى شتاءٍ قاسٍ من المعاناة، وخريفٍ طويلٍ من التضحيات والآلام؟
لمْ يكُن يدور بخلد أكثر المُحللين تشاؤمًا، أن تؤول الأوضاع في بلدان الربيع العربي إلى ما آلت إليه من احتقانات ومواجهات بين حلفاء الأمس وفرقاء اليوم، جمعتهم ساحات الثورات في لحظات المخاض العسير؛ لتفرِّقهم كراسي السلطة وشهوات الحكم.. نعم؛ تحوَّل الربيع العربي في عامه الثالث إلى مقصلة تحزُّ رقابَ الثوَّار، وإلى فتنة تقتات على أبنائها.. تحوَّل الربيعُ إلى رحًى تعصر بين قطبيها الوطن لتُحيله خرابًا، وتسلمَّه إلى الضياع؛ من خلال مشاهد الانفلات الأمني، وفي دراما القتل اليومي الذي يأتي على الأخضر واليابس.
والشواهدُ ماثلة من دول الربيع على ما نقول؛ ففي مصر حيث تبلغ الاستقطابات ذروتها بين قوى الشارع السياسي، في أجواء احتقانٍ وتخوينٍ وتخويفٍ.. منظرٌ يُثير شماتة الشامتين من أرباب نظام مبارك، ويُحرك كوامن الحُزن في نفوس الشباب الذين أرادوها ثورةً تكنس مُخلفات الماضي، وتُهيِّئ "أم الدنيا" لغدٍ أفضل.
وليس الوضع بأفضل حالاً في ليبيا، التي انتفضتْ على حُكم القذافي؛ لتنجح في الإطاحة به، وبدلاً من أن تضع نفسها على سكة استحقاقات المستقبل من تطوُّر ونماءٍ، وجدتْ نفسها تدورُ في دوَّامة مُميتة من العنف القبلي، والاستفراد المليشيَّاتي المُسلح، لدرجةٍ بات البعض يتحسَّر على عهد العقيد!
وغير بعيدٍ عن ليبيا، تتسربلْ تونس -رائدة الحراك الثوري العربي- في مشكلاتها، وتغوصُ عميقاً في التوترات والصراعات التي أطلَّت برأسها، قبل أن يتمكَّن الربيعُ فيها من تنفُّس الصُعداء.
وكذلك الحال بالنسبة لليمن، التي تمخَّض جبل الثورة فيها عن مشكلات وصعوبات تأخذ برقبة هذا البلد المُنهك اقتصاديًّا، والمُتعب سياسيًّا.
وفي سوريا، لم يُحسم المشهد بعد، ولايزال الاقتتالُ على أشدِّه، ولا يعلمُ أحدٌ أين سترسو سُفن هذا البلد، بعد أن أضحى ساحةً مفتوحةً لتصفيةِ الحسابات الإقليميَّة، ومُرشحًا لأن يُصبح مسرحًا دوليًّا في هذا الصدد، إذا استمرتْ الحرب الجارية على أرضه حاليًا دون أن تجدَ مَنْ يُسهم في وضع أوزارها، أو يطفئ أوَارَها المُلتهب، والذي يكاد أن يشعل المنطقة برمَّتها!!
وحتى المحاولات الجادَّة لوأدِ الأزمةِ وإطفاء نيرانِها، كانت تصطدمُ بأمورٍ "تبيت بليل"، كما قال معالي يوسف بن علوي في معرض حديثه عن الأزمة السوريَّة؛ فليس ثمَّة من يدعم السلام، بل هُناك كثرٌ يدقون طبولَ الحرب؛ متسبِّبين في قتل الأبرياء، وخراب الأوطان.
وفي ظل هذا الواقع المأساوي، لم يبقَ لنا سوى "النأي بالذات"، والابتعاد بوطننا عُمان نحو ضفة السلام، والهجر الجميل.. هجر الفتن والبغض والكراهية، صوب شواطئ المحبَّة والتآلف والوئام.
... في زمن الجحودِ والنكران هذا، ينبغي أن نلتفتَ إلى مصالحنا، ونلتفَّ حول إيماننا ويقيننا بضرورة الحفاظ على مُنجزاتنا.. وهي مُنجزات حضاريَّة سامقة، وحصيلة أكثر من أربعة عقودٍ من العطاء والعمل الدؤوب، ونتاجٌ لجهودٍ مُتكاملة تقودها الرؤية الثاقبة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه.
وفي هذا الصدد، يقولُ جلالته -لدى تفضُّله برعايته السامية الكريمة افتتاح الفترة الخامسة لمجلس عُمان للعام 2011 بحصن الشموخ: "إنَّ بناءَ الدولة العصريَّة التي تعهَّدنا بإقامتها منذ اللحظة الأولى لفجر النهضة المباركة، قد اقتضى منا بذل جهود كبيرة في مجال إنشاء البنية الأساسيَّة، التي هي عماد التنمية الشاملة وركيزتها الأولى، وتوفير هذه البنية في شتى ربوع السلطنة أتاح -ولله الحمد- فرصةً كبرى للتطوُّر العمراني في مختلف المدن والقرى، على امتداد الساحة العُمانيَّة، ومهَّد لإقامة مشروعات اقتصاديَّة وتجاريَّة وصناعيَّة عديدة، ومنشآت تعليميَّة وثقافيَّة وصحيَّة واجتماعيَّة متنوِّعة".
إذن.. ولأن البناء عملية ليست بالسهلة، وتحتاج إلى تسخير الموارد، وتكريس الطاقات، فإنه يُتطلب الحفاظ على هذا الحصاد التنموي والحضاري جهدٌ موازٍ، مُعززٌ بالوعي والإدارك لإعلاء البُنيان، والتصدِّي لكل من يُحاول هدمه أو تقويض أركانه.
وهنا.. نستشهدُ بحديث جلالته؛ عندما قال: "وإنه لمن توفيق الله أن أمدَّ العمانيين بقسط وافر من هذه الأسباب؛ فتمكنوا خلال العقود الأربعة المُنصرمة، من تحقيق مُنجزات ستظل خيرَ شاهد لا يُنكره ذو بَصرٍ وبصيرة؛ فالشكرُ له سبحانه على ما أسدى وأعطى وأنعم وأكرم، والأبتهال إليه تعالى في ضراعة وخشوع أن يَهََب هذا الجيل من أبناء عُمان وبناتها، وكذلك الأجيال اللاحقة، القدرة على صيانة هذه المُنجزات، والحفاظ عليها من كل سوءٍ، والذود عنها ضد كل عدوٍّ حاقدٍ، أو خائنٍ كائدٍ، أو متربصٍ حاسدٍ؛ فهي أمانة كبرى في أعناقهم يُسألون عنها أمام الله، والتاريخ والوطن".
ويُجسدُ هذا النطق السامي الرؤية الثاقبة لجلالته؛ حيث إن جلالته كأنه يستشرفُ ما ستؤول إليه الأحوال في عدد من الدول العربيَّة من دمار، وما سيحيقُ بها من خراب.
فالحفاظُ على المُنجزات فرضُ عينٍ على كلٍّ منا؛ باعتبارها أمانة وطنيَّة علينا أن نرعاها؛ حتى نسلمها إلى الأجيال اللاحقة لضمان استدامة الفائدة.
وليستْ المُنجزات الماديَّة وحدها هي ما تحتاج أن نُحافظ عليها، بل علينا في هذه اللحظات التاريخيَّة والمفصليَّة، التمسكُ بالثوابت، والعضُ عليها بالنواجذ؛ باعتبارها المقوِّمات الأساسيَّة التي يلزم الالتفاف حولها، والتأكيد عليها، خاصة في زمن الفتنة هذا.. وعلى رأس هذه الثوابت: الوحدة الوطنيَّة، وأهميَّة الترفُّع عن العصبيَّات الضيِّقة، والرؤى المناطقيَّة، ونهج التطرف الذي تنبذه هذه الأرض الطيبة، وتعافه نفوس العمانيين المتسامحة.
... فعُمان الحضارة، كانت ولا تزال تعيش ضمن منهج التسامح، والاعتدال والتعايش الحضاري، ولا مكان بيننا لمن يروِّجون للتطرف، ويسعون في الأرض بالفتن وبذر بذور الكراهية والاحتقان والشقاق.
وفي هذا الإطار، يُنتظر أن تقوم النخب بدورها كاملاً لتحقيق الالتفاف حول هذا النسيج المجتمعي، والحفاظ على السلم الاجتماعي، وتقوية الوشائج؛ من خلال التركيز على القواسم المشتركة بعيداً عن الاختلافات، والتذكير بما يُجمعنا ويشدنا إلى بعضنا البعض؛ في إطار الوطن.. هذه الأم الرؤوم التي نتفيَّأ ظلالها، ونعيش على خيراتها.
ولابد لشبابنا في هذه المرحلة الحسَّاسة التركيز على بناء الذات، وما يتطلبه ذلك من تكريس؛ فعلى الطالب أن يدرس ويجد في دروسه، والكاتب أن يكتب ويجيد، والموظف أن يُتقن عمله، وكلٌّ في مجاله. فبها نضمن لوطننا استمرار مسيرة النماء والازدهار، وقبل ذلك تقوية اللحمة الوطنيَّة، وتمتين النسيج الاجتماعي؛ ليُصبح كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا.
وقطعًا لا يعني هذا ألا نختلف حول العديد من القضايا المطروحة، ولكن مع الالتزام بشروط الحوار الحضاري والحريَّة المسؤولة. وعلى صحافتنا أن تعي ذلك جيداً، وألا تلهث وراء الإثارة التي تعود أحيانا بآثار مدمِّرة على البناء المجتمعي، وتعمل فيه فتكاً وتدميرًا. وهناك بعض نماذج الخطاب الإعلامي التي ينبغي تجنبها؛ لأنها تلقي بظلالها السالبة على العديد من أوجه الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة.. فكم من خبرٍ قَصَد به صاحبه الإثارة قد تسبَّب في تأثير سلبي على الاستثمارات!! وكم من مقال أوقد مراجل الحقد في نفوس البعض!!
... يتوجَّب على خطابنا الإعلامي أن يتحلى بالواقعيَّة المهنيَّة، بعيدًا عن التهويل والتطبيل، وعليه أن يكون وجهًا للحقيقة كما هي، واضعاً نُصب عينيه المصلحة العليا للوطن في المقام الأول. ننشد خطابًا يجمع لا يفرق، ويحث المواطنين على التآلف والتعايش الخلاق، ونبذ كل ما يُفرقهم.
ويبقى أن نقول إن التنمية التي نستظل بخيراتها، والاستقرار الذي ننعم به، والقيم التي تشكل وجداننا، هي بمثابة حياتنا على هذه الأرض الطيبة، ولابد من الذود عنها، والعمل على تطويرها، والسير بها إلى الأمام.