محمد بن علي بن ضعين البادي
في عالمٍ تهرول دوله نحو الانعزالية، وتتساقط فيه التحالفات الدولية كأوراق الخريف عند أول هزة اقتصادية أو أمنية، يقف مجلس التعاون لدول الخليج العربية لا كمنظمة إقليمية فحسب؛ بل كحالة تلاحم اجتماعي وسياسي فريدة. إنه الكيان الذي لم يتأسس بقرار؛ بل وُلد من رحم الجغرافيا والتاريخ، وتعمّد بدم الأخوة قبل أن توقعه أقلام الدبلوماسيين.
والرؤية القاصرة هي التي ترى في "الاختلاف الخليجي" علامة ضعف؛ أما الرؤية الإستراتيجية العظمى، فتدرك أن الخلاف داخل هذا البيت هو "خلاف حيوية" لا "خلاف وجود"؛ فالكيانات الهشة هي تلك التي تعيش في جلباب التطابق الزائف، فتنفجر عند أول تباين في المصالح؛ أما الكيان الخليجي، فهو كالبنيان المرصوص الذي صُمم ليمتص الصدمات، يختلف في الفروع ليقوى في الأصول. إن القدرة على إدارة التباين تحت سقف واحد هي "البرهان الأسمى" على النضج المؤسسي الذي افتقدته أعرق الديمقراطيات والتكتلات في القرن الحادي والعشرين.
ولم يكن المجلس يومًا ترفًا دبلوماسيًا أو ناديًا للمصالح العابرة؛ بل كان "درع الضرورة" في مواجهة إقليم مضطرب. ست دول، يربطها شريان اجتماعي واحد، وثقافة تضرب جذورها في عمق التاريخ العربي، ومصالح اقتصادية تشكل عصب العالم الحديث. هذا التلاحم جعل من مجلس التعاون "صمام أمان" ليس فقط لشعوبه؛ بل للاستقرار العالمي. إن "الحكمة الخليجية" التي تراكمت عبر العقود ليست مجرد هدوء سياسي؛ بل هي قدرة فائقة على تحويل الأزمات إلى "منصات للقفز" نحو تنسيق أعمق وتحصين أكبر للقرار المشترك.
لقد عَبَر هذا الكيان محيطات من الأزمات، من حروب الخليج المتتالية إلى التحولات الكبرى في النظام الدولي، وفي كل مرة، كان المراهنون على تفككه يخسرون الرهان. ذلك لأنَّ الخلاف في العرف الخليجي "سحابة صيف" تروي الأرض ولا تقتلع الزرع؛ إنه خلافٌ لا يقطع وصلًا، ولا يهدم تاريخًا، ولا ينكر وحدة مجتمع. إن العقلانية التي تدار بها الأزمات داخل المجلس تعكس إيمانًا مطلقًا بأن "المصير المشترك" حقيقة جيوسياسية لا تقبل القسمة على اثنين.
إن عظمة مجلس التعاون تكمن في كونه لم يطمس هوية أعضائه؛ بل صنع من تنوع رؤاهم سيمفونية واحدة، حيث شكل احترام السيادة الركيزة التي حفظت الود، بينما كان تغليب المصلحة العليا هو المحرك الذي حفظ الكيان. وفي زمن التكتلات العملاقة، يدرك الخليج أن القوة لا تأتي من "التطابق التام" الذي يلغي الإبداع؛ بل من "التناغم الذكي" الذي يجمع القوى المتباينة لصبها في مصلحة الإنسان الخليجي أولًا، والأمن القومي العربي ثانيًا.
إن مجلس التعاون الخليجي يقدم اليوم درسًا للعالم: أن الأخوة الصادقة لا تعني غياب الاختلاف؛ بل تعني التفوق عليه. وسيبقى هذا الكيان شامخًا، ليس لأنه معصوم من الخطأ؛ بل لأنه يملك "بوصلة أخلاقية وتاريخية" تُعيد توجيهه دائمًا نحو شاطئ الوحدة مهما بلغت قوة الرياح. وفي ميزان التاريخ، ستُكتب قصة هذا المجلس بوصفها قصة "الانتصار بالحكمة"، وقصة شعبٍ آمن بأنَّ وحدته ليست خيارًا سياسيًا؛ بل هي قدرٌ محتوم، ودرعٌ مصون، ومستقبلٌ لا يقبل التجزئة.
