تشو شيوان **
في عام 2025، وجدت منطقة الشرق الأوسط نفسها مجددًا في قلب عاصفة من التحديات الأمنية المتشابكة؛ بدءًا من استمرار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، مرورًا بالتصعيد غير المسبوق بين إسرائيل وإيران، وصولًا إلى الحروب الأهلية الممتدة في السودان وليبيا وغيرها من بؤر التوتر.
غير أنّ اللافت، أنّ هذا المشهد المضطرب لم ينعكس سلبًا على مسار العلاقات بين الصين والدول العربية؛ بل على العكس، أظهر قدرًا ملحوظًا من المرونة والقدرة على التكيّف، بما يخدم الاستقرار والتنمية على المدى الأوسع. وعلى مدار العام، حافظت بكين على وتيرة تواصل سياسي رفيع المستوى مع عدد من العواصم العربية الفاعلة، مثل: القاهرة والرياض وأبوظبي والدوحة وعمَّان، إلى جانب دول عربية أخرى. هذه الاتصالات لم تقتصر على المجاملات الدبلوماسية؛ بل شملت، كما أجد، حوارات معمّقة وصريحة تناولت العلاقات الثنائية، والقضايا الإقليمية الساخنة، فضلًا عن ملفات الحوكمة العالمية في ظل نظام دولي يتجه نحو مزيد من التعددية.
ومن خلال أطر التعاون الجماعي، وفي مقدمتها منتدى التعاون الصيني- العربي، أعادت الصين التأكيد مرارًا على موقفها المبدئي القائم على احترام سيادة الدول وحقها في اختيار نماذجها التنموية بعيدًا عن الإملاءات الخارجية، مع رفض واضح لمختلف أشكال التدخل في الشؤون الداخلية. وهذا الخطاب- برأيي- وجد صدى إيجابيًا لدى العديد من الدول العربية التي تبحث عن شراكات تقوم على المصالح المتبادلة لا على الاصطفافات القسرية، وفي المحصلة يمكن القول إن التفاعل الصيني- العربي خلال عام مليء بالأزمات لم يكن مجرد إدارة علاقات اعتيادية؛ بل شكّل نموذجًا لسياسة تسعى إلى تثبيت الاستقرار وتعزيز التنمية في منطقة أنهكتها الصراعات. وربما تكمن أهمية هذا المسار في كونه يفتح هامشًا أوسع أمام الدول العربية للمناورة الإيجابية، وبناء شراكات أكثر توازنًا في عالم سريع التحوّل.
وعلى الرغم من تباطؤ وتيرة النمو الاقتصادي العالمي، وما خلّفته الصراعات الإقليمية من ضغوط واضحة على أسواق الطاقة والخدمات اللوجستية الدولية، فإن مسار التجارة والاستثمار بين الصين والدول العربية، في تقديري، سار في اتجاه مغاير لهذا السياق السلبي، محافظًا على زخم نموه العام. ففي الفترة الممتدة من يناير إلى يوليو من العام الجاري، سجّل حجم التبادل التجاري بين الجانبين مستوى قياسيًا بلغ نحو 245 مليار دولار أمريكي، محققًا نموًا سنويًا بنسبة 3.2%، ما يعكس استمرار الصين في ترسيخ موقعها كشريك تجاري رئيسي لعدد متزايد من الدول العربية.
وما يلفت الانتباه هنا، ليس فقط الأرقام؛ بل التحول النوعي في بنية هذا التعاون. فقد باتت الآلات والمعدات الصينية، إلى جانب منتجات الطاقة الجديدة ومعدات الاتصالات، تحظى بحضور واسع في الأسواق العربية، في مؤشر على انتقال الشراكة من تبادل تقليدي إلى تعاون أكثر تقدمًا تقنيًا. وفي المقابل، تشهد الصادرات العربية إلى السوق الصينية توسعًا مطّردًا، لتشمل قطاعات ذات قيمة مضافة أعلى، مثل منتجات البتروكيماويات المعالجة، ومواد الألومنيوم عالية الجودة، والمواد الكيميائية الدقيقة.
أما على صعيد الاستثمار، فتبدو الشركات الصينية أكثر ميلًا إلى تعميق حضورها وفق مقاربات أكثر استدامة؛ سواء في مشاريع الطاقة الجديدة والتصنيع الذكي في دول الخليج، أو في تطوير المناطق الصناعية والبنية التحتية في شمال إفريقيا، ويبرز توجه واضح نحو تقاسم فرص التنمية وخلق فرص العمل المحلية. وأجدُ أن هذا المنحى يتقاطع بشكل وثيق مع الرؤى والاستراتيجيات العربية الهادفة إلى تنويع الاقتصادات الوطنية وتقليل الاعتماد على القطاعات التقليدية، ما يمنح التعاون الصيني- العربي بعدًا استراتيجيًا يتجاوز الحسابات الاقتصادية قصيرة الأجل.
ومشاريع الحزام والطريق بين الصين والدول العربية حققت نتائج مثمرة، من البنية التحتية التقليدية إلى المجالات الناشئة المستقبلية؛ ففي القطاعات التقليدية ذات الميزة التنافسية، كالموانئ والسكك الحديدية والطاقة والاتصالات، تم تسليم مشروع ميناء الملك السعودي الحوض الجاف رقم 4 الذي أنشأته شركة صينية بنجاح، وهو أكبر حوض جاف في الشرق الأوسط. وتم توقع عقد ميناء مبارك الكبير في الكويت بنحو 4 مليارات دولار مع شركة صينية. وقد ساهمت هذه المشاريع بشكل ملموس في تحسين ظروف التنمية المحلية لهذه الدول. وفي الصناعات الناشئة المستقبلية، يتسارع التعاون بوتيرة أكبر بين الصين ودول الخليج العربي. وتم دخول مشروع عملاق لطاقة الرياح في خليج السويس بمصر ومشروع عملاق للطاقة الشمسية الكهروضوئية، وكلاهما من إنشاء شركات صينية، حيز التشغيل التجاري؛ الأمر الذي يساهم في التحول الهيكلي نحو الطاقة المتجددة والخضراء. وإضافة إلى ذلك، تتعاون الشركات الصينية مع الجامعات السعودية لإنشاء مركز ابتكار محلي للذكاء الاصطناعي، وحصلت شركات السيارات الصينية العاملة بالطاقة الجديدة على طلبية قياسية للسيارات الطائرة في الإمارات، تشير هذه المشاريع التعىمنية بوضوح إلى أن التعاون بين الجانبين يتجه بثبات نحو سلاسل القيمة العالية.
وعلاوة على ذلك، تتسم التبادلات الشعبية والفكرية بين الصين والدول العربية بحيوية مماثلة؛ مما يضفي على العلاقات الثنائية أساسا إنسانيا دافئا. في العام الجاري، انطلقت عدة خطوط جوية جديدة تربط المدن الصينية والعربية، من هايكو إلى جدة، ومن بكين إلى مسقط، وجعل الجسور الجوية أكثر سلاسة. ويكمل ذلك تقدم ملحوظ في تسهيل إجراءات التأشيرات؛ حيث طبقت الصين سياسات أحادية الجانب للإعفاء من التأشيرات لكل من السعودية وعُمان والكويت والبحرين، لتشمل بذلك دول الخليج العربي بشكل منهجي لأول مرة؛ كما وقّعت الصين والسعودية اتفاقية إعفاء متبادل من التأشيرات للموظفين الدبلوماسيين والرسميين؛ مما سهّل التبادلات الرسمية. ومع انخفاض عوائق السفر واستمرار انتعاش خطوط الطيران، قد ازداد عدد المسافرين وتبادل البضائع بشكل ملحوظ، ويتجدد التفاهم المتبادل باستمرار.
يا أصدقائي العرب.. إذا نظرنا إلى عام 2025 سنجد أنه في ظل بيئة دولية يكتنفها الغموض، يتمتع نموذج العلاقات بين الصين والدول العربية القائم على الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة بأهمية بالغة؛ فهو لا يقتصر على المصالح المشتركة فحسب؛ بل يقدم أيضًا نموذجا بنّاء لكيفية التعامل مع الدول المختلفة. والعام المقبل عام مُهم للعلاقات بين الصين والدول العربية؛ حيث ستُعقد الدورة الثانية من القمة بين الصين والدول العربية في الصين، وهي لحظة حاسمة للجانبين لاستعراض إنجازات الدورة الأولى من القمة واستكشاف فرص التعاون المثمر إلى أقصى الحدود. وباعتباري صحفيًا صينيًا وخبيرًا في الشؤون الصينية العربية، أتطلع إلى أن يحقق بناء مجتمع المستقبل المشترك بين الصين والدول العربية في العصر الجديد بخطوة ثابتة.
** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية- العربية
