حين تكتب ظفار أسماء نباتاتها النادرة بمداد الضباب

 

 

 

أحمد مسلم سوحلي جعبوب

 

في أقصى الجنوب العُماني؛ حيث لا تنصاع الجغرافيا لقوانين المناخ المألوفة، تنبثق ظفار كاستثناءٍ حيّ، وكأنها كُتبت بمدادٍ آخر.

هنا، لا يُقاس الفصل بموعده، ولا تُعرَف الأرض بجدبها، بل تُفاجئ الطبيعةُ العلماءَ قبل الرحّالة، وتُربك الباحثَ قبل الشاعر. في هذا المسرح الطبيعي الفريد وُلد نبات Portulaca dhofarica، نباتٌ لا يعرف العالم له وطنًا إلا ظفار، ولا تاريخًا علميًا إلا حديث العهد، حين سُجّل كنبات نادر لأوَّل مرة عام 2000م، ليضيف سطرًا جديدًا في كتب نباتات العالم، مصدره الجنوب العُماني.

هذا النبات العصاري النضير، المأكول بالكامل، ليس مجرد كائن أخضر عابر، بل شهادة حيّة على عبقرية المناخ الظفاري. أوراقه اللحمية تختزن الماء كما تختزن الذاكرةُ الحكاياتِ القديمة، وسيقانه الغضّة تنبض بالحياة في زمنٍ تعجز فيه نباتات كثيرة عن البقاء. هو ابنُ الضباب، ورفيقُ الرذاذ، وأحد أبناء الرياح الموسمية التي تهبّ على جبال ظفار، فتُعيد تعريف معنى الخصوبة في قلب الجزيرة العربية.

مناخ ظفار ليس ظاهرةً عابرة، بل لغزٌ علميٌّ طويل الأمد. صيفٌ بلا قيظ، وضبابٌ يتسلّل من بحر العرب ليُعانق الجبال، وأمطار رذاذية تُغذّي الأرض دون أن تُغرقها. هذا التوازن الدقيق، الذي حيّر الباحثين، هو ما منح Portulaca dhofarica فرصة الظهور، لا بوصفه نباتًا طارئًا، بل كنوعٍ متوطّن لا يقبل الهجرة ولا يعترف ببديل. هنا فقط تتوافر شروط الحياة التي يفهمها، وهنا فقط يكتب فصله الكامل.

ويحمل هذا النبات اسمًا محليًا يفيض دلالةً وذاكرة: لحيات أشاخار، أي لحية الشائب. تسمية لم تأتِ مصادفة، بل انبثقت من تشبيه بصري وحسٍّ شعبي عميق؛ فتفرعات النبات ونعومته المُمتدّة على سطح الأرض تُشبه لحية الشيخ الوقور، رمز الحكمة والصبر والبقاء. وكأنَّ المجتمع المحلي أدرك، قبل العلم، أن ما ينبت أمامه ليس عاديًا، بل كائن يحمل سِمَة الزمن الطويل.

إن اقتصار وجود Portulaca dhofarica على ظفار وحدها يضعه في مصاف الكنوز النباتية العالمية. فالعلم، رغم اتساع خرائطه، لم يتعرّف عليه إلا هنا، ولم يُسجّله إلا في هذا الركن الجنوبي من سلطنة عُمان. وهذا كافٍ ليجعل منه دليلًا قاطعًا على أنَّ ظفار ليست هامشًا نباتيًا، بل مركز إشعاعٍ حيويّ، وحاضنة لأنواع لم يعرفها العلم إلا متأخرًا، بعد أن عاشت قرونًا في حضن الجبال والسهول والضباب.

ولأنَّ Portulaca dhofarica نباتٌ مأكول، نضير، عصاري، فإنه يفتح بابًا آخر للتأمّل: كيف استطاعت الطبيعة في ظفار أن توفّق بين القيمة الغذائية والبقاء البيئي؟ وكيف قدّمت نباتًا يجمع بين اللطف على الجسد والقوة في التكيّف؟ أسئلة لا تُجاب في المختبر وحده، بل تُقرأ في المشهد الطبيعي كاملًا، حيث تتشابك المعرفة الشعبية مع البحث العلمي، ويكون الإنسان شاهدًا لا سيّدًا.

إن الحديث عن هذا النبات هو حديثٌ عن ظفار نفسها؛ عن أرضٍ منحت الدفء لنباتات لم تعرفها القواميس القديمة، واحتضنت أنواعًا نادرة كما تُحتضن الأسرار. ظفار لا تُعرَّف بنباتاتها فحسب، بل بما تُخفيه من احتمالات، وبما تُعلّمه للعلم كلما ظنَّ أنَّه أحاط بكل شيء.

وهكذا تقف Portulaca dhofarica، لحية الشائب، نباتًا صغيرًا في حجمه، عظيمًا في دلالته، شاهدًا أخضر على أن الجنوب العُماني ليس مجرد موطن، بل معملٌ طبيعيٌّ مفتوح، تُكتب فصوله بهدوء الضباب. طبيعةٌ متفرّدة بمناخها الاستثنائي، وسِمةٌ جاذبة للعلماء والمبدعين والباحثين، ولأولئك الذين يعشقون ظفار وتضاريسها الساحرة، حيث تجتمع الكثبان الرملية، والشواطئ، والجبال، والصحراء، لتلتقي تضاريس العالم كلّها في لحظة واحدة من الإبداع.

لحية الشائب (لحيات أشاخار)

نباتات نادرة في ظفار (3).jpeg
نباتات نادرة في ظفار (2).jpeg
نباتات نادرة في ظفار (1).jpeg
 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z