أن نعرف.. ثم نُصِر!

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

أحيانًا نعرف أنَّ الطريق لا يقود إلى حيث نُريد، قبل أن نخطو فيه أصلًا. نلتقط الإشارة، نشعر بالقلق، ونرى النهاية مبكرًا، ثم نمضي رغم ذلك كأننا نختبر حظّنا مع ما نعرف أنه لن يتغيّر.

في هذا المعنى يقول الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي: «عادتي السيئة أنني أرى نهاية الأشياء منذ بدايتها، ومع ذلك أكمل الطريق حتى آخره لأتأكد من ذكاء غبائي». ليست العبارة عن الغباء بقدر ما هي عن مفارقةٍ إنسانية: أن نرى الخطأ، ونعرفه، ثم نختار الاستمرار فيه لأنَّ التراجع عنه أثقل علينا من تحمّل نتائجه.

المفارقة ليست في ضعف الرؤية؛ بل في ضعف القدرة على التوقّف. نعرف جيدًا، ثم نؤجّل الفعل الذي تقتضيه هذه المعرفة. نرى الإشارة الحمراء، نشعر بعدم الارتياح، ونلمح أن المسار لا يحمل ما وعد به، ومع ذلك نكمل؛ لأن التراجع يبدو اعترافًا بالفشل، أو مساسًا بالهيبة، أو تبديدًا لما بُذل من جهد. وهكذا يتحوّل الاستمرار من خيارٍ عملي إلى عبءٍ نفسي، ومن قرارٍ عقلاني إلى عادةٍ ندافع عنها… حتى ونحن نعرف أنها لا تقود إلى مكانٍ أفضل.

وحين تنتقل هذه المفارقة من الفرد إلى المؤسسة، تصبح أثقل أثرًا. فكم من مشروع يبدأ بحماس، ثم تظهر مبكرًا مؤشرات التعثّر أو ضعف الجدوى، ومع ذلك يُستكمل المسار لا لأنه الأفضل، بل لأنه أصبح «المعتمد». هنا لا يعود القرار أداةً لتحقيق الغاية، بل يتحوّل إلى غايةٍ بذاته، ويصبح تغييره أصعب من تحمّل نتائجه، فتُدار الأخطاء إلى نهايتها بدل أن تُصحَّح في بدايتها.

والأخطر من القرار هو المناخ الذي يُحيط به. فبعض البيئات لا تكافئ من يُراجع، بل من يُصرّ؛ ولا تُشجّع من يُصحّح، بل من يُكمل، ولو كان الإكمال يعني إدارة الخطأ لا إنهاءه. يصبح التراجع ضعفًا، والمراجعة حرجًا، بينما يُقدَّم الثبات- مهما كانت نتائجه- بوصفه صلابة. وفي هذا المناخ، لا يتراكم التعلّم بقدر ما يتراكم الدفاع، ولا تُبنى الحكمة بقدر ما تُبنى الجدران حول أخطاء يصعب الاقتراب منها.

هنا يظهر الفرق بين الذكاء في الرؤية، والشجاعة في الفعل؛ فكثيرون يشخّصون الخلل مبكرًا ويفهمون تبعاته، لكنهم يتردّدون حين يحين وقت التراجع العلني أو التصحيح الواضح. ليست المشكلة في غياب العقول؛ بل في غياب المساحات الآمنة التي تسمح للعقل بأن يُغيّر رأيه دون أن يُحاسَب على ذلك بوصفه ضعفًا.

وغالبًا ما نُقنع أنفسنا أن الاستمرار هو الأقل كلفة، لأنه يحفظ ما استُثمر ويُبقي الصورة متماسكة. لكن الكلفة الحقيقية لا تُقاس بما يُصرف؛ بل بما يُهدر من وقت، وثقة، وطاقة، ومعنى.

والاستمرار في مسار نعرف أنه لا يقود إلى نتيجةٍ سليمة قد يكون أبطأ من الاعتراف، لكنه أعمق أثرًا لأنه يُراكم الخلل بدل أن يُداويه.

ربما نحتاج إلى إعادة تعريف النضج في بيئات العمل. فالنضج ليس غياب الأخطاء، بل ملاحظتها وتصحيحها قبل أن تتضخّم. وليس النضج ألا نتراجع أبدًا، بل أن نعرف متى يكون التراجع هو القرار الأكثر مسؤولية.

وفي النهاية، ليست عبارة دوستويفسكي اعترافًا بالغباء بقدر ما هي تحذيرٌ منه: أن نرى النهاية منذ البداية… ثم نمضي إليها بإرادتنا. وربما يكون النضج الحقيقي أن نثق في رؤيتنا المبكرة، لا أن نُكابر عليها؛ وأن نمنح أنفسنا إذن التراجع حين يكون التراجع هو الطريق الأقصر إلى الصواب، لا الأطول إلى الخطأ. فليس الذكاء أن نرى النهاية… بل أن نغيّر الطريق قبل أن نصل إليها.

الأكثر قراءة

z