الانقسام العالمي حول الذكاء الاصطناعي (1- 3)

 

 

 

 

عبيدلي العبيدلي **

صراع الفلسفات ونزاعات الاقتصاد وسباق الجيوسياسة

 

يعيش العالم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لحظة تاريخية فارقة، لا يمكن اختزالها في توصيف تقني أو اقتصادي ضيق. فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة متقدمة لتحسين الكفاءة أو تسريع المعالجة الحسابية، بل تحوّل إلى قوة بنيوية تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وأنماط العمل، وموازين القوة، وآليات اتخاذ القرار، بل وتمسّ جوهر السؤال الإنساني القديم حول معنى الفعل والمسؤولية والاختيار.

كما لم يعد الذكاء الاصطناعي ظاهرة تقنية محصورة في دوائر البحث العلمي أو الشركات المتقدمة، بل أصبح أحد المحددات البنيوية لمسار الاقتصاد العالمي وإعادة تشكيل السلطة والمعرفة. فمنذ مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى عامل حاسم في إعادة تعريف الإنتاج، واتخاذ القرار، وتنظيم الأسواق، بل وفي صياغة أنماط جديدة للعلاقات الاجتماعية والسياسية. هذا التحول السريع والعميق أفرز انقسامًا عالميًا حادًا، لا يدور حول إمكانية إيقاف الذكاء الاصطناعي أو رفضه، بل حول كيفية توجيهه، وحدود استخدامه، ومن يملك سلطة التحكم فيه.

وبين التفاؤل الجامح والتحذير الوجودي، تتصارع رؤيتان فلسفيتان أساسيتان لتفسير الذكاء الاصطناعي: رؤية ترى فيه مرحلة متقدمة في رحلة التطور البشري، ورؤية أخرى تحذر من أنه تهديد جوهري لكيان الإنسان ولفرص العدالة والتوازن الاجتماعي. ومع تزايد الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي، لم تعد هذه الرؤى مجرد نقاشات فكرية، بل صارت جزءاً من معادلات النفوذ العالمي والاقتصاد السياسي للتكنولوجيا.

فتُظهر المؤشرات الاقتصادية الكلية حجم هذا التحول بوضوح. فبحسب تقديرات PwC، يُتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي ما يقارب 15.7 تريليون دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030، أي ما يعادل زيادة تقارب 14 في المئة من الناتج العالمي الحالي. هذه الزيادة، وفق التقديرات نفسها، لن تتوزع بالتساوي؛ إذ يُتوقع أن تستحوذ الصين وحدها على نحو 26% من المكاسب، تليها أمريكا الشمالية بنحو 23 %، ثم أوروبا بنحو 18%، بينما لا تتجاوز حصة إفريقيا والشرق الأوسط مجتمعتين 05%. هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن تفاوت في مستويات التطور التقني، بل تكشف عن خطر إعادة إنتاج الفجوة التاريخية بين المركز والأطراف، ولكن هذه المرة بلغة البيانات والخوارزميات.

في المقابل، تحذّر تقارير صندوق النقد الدولي من أن ما بين 40 و45 في المئة من الوظائف عالميًا ستتأثر بالذكاء الاصطناعي خلال العقدين المقبلين؛ سواء عبر الإحلال الكامل أو التغيير الجذري في طبيعة المهام. وتشير بيانات منظمة العمل الدولية إلى أن 14 إلى 18 في المئة من الوظائف معرضة للاختفاء الكامل، بينما ستشهد 30 إلى 35 في المئة تحولات جوهرية في مضمونها. هذه الأرقام تُستخدم من قبل المعارضين لإثبات أن الذكاء الاصطناعي لا يمثل مجرد “تحدٍ مؤقت”، بل تهديدًا بنيويًا لسوق العمل كما عرفه العالم منذ الثورة الصناعية.

في مواجهة هذه المخاوف، يقدّم أنصار الموقف المؤيد للذكاء الاصطناعي قراءة تاريخية ترى أن كل ثورة تقنية كبرى رافقها في بدايتها خوف مماثل من البطالة والانهيار الاجتماعي، لكن النتائج النهائية كانت غالبًا توسع الثروة وخلق وظائف جديدة. ويستشهد هؤلاء بشواهد واقعية معاصرة يصعب تجاهلها. ففي قطاع الرعاية الصحية، حققت أنظمة تشخيص قائمة على التعلم العميق دقة تجاوزت 94 في المئة في الكشف المبكر عن بعض أنواع السرطان، وهو ما أسهم في خفض نسب الخطأ البشري وتقليص كلفة التشخيص في دول متقدمة. وفي القطاع الصناعي، أظهرت مصانع اعتمدت على الصيانة التنبؤية المدعومة بالذكاء الاصطناعي انخفاضًا في الأعطال المفاجئة بنسبة تراوحت بين 20 و30 في المئة، ما انعكس مباشرة على الإنتاجية وخفض الهدر. أما في مجالات العمل المعرفي، فقد بيّنت دراسات ميدانية أن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي رفع إنتاجية المبرمجين والمحللين الماليين وصنّاع المحتوى بنسبة تراوحت بين 20 و45 في المئة، مع تقليص زمن إنجاز بعض المهام إلى النصف تقريبًا.

ويضيف المؤيدون أن الذكاء الاصطناعي لا يدمّر الوظائف بقدر ما يعيد تشكيلها، مستشهدين بتقديرات تتوقع خلق ما يقارب 97 مليون وظيفة جديدة عالميًا بحلول العام 2030 في مجالات مرتبطة بالبيانات، والإشراف على النظم الذكية، والأمن السيبراني، والأخلاقيات الرقمية. غير أن هذا الطرح يصطدم بانتقادات جوهرية، إذ يرى المعارضون أن المشكلة لا تكمن في عدد الوظائف الجديدة، بل في الفجوة الزمنية والمهارية بين الوظائف التي تختفي والوظائف التي تظهر.

فالعمال الذين يفقدون وظائفهم في مراكز الاتصال أو المحاسبة التقليدية لا يمكنهم الانتقال تلقائيًا إلى وظائف تحليل البيانات أو هندسة الخوارزميات دون استثمارات ضخمة في إعادة التأهيل، وهي استثمارات غالبًا ما تغيب في الدول النامية وحتى في بعض الاقتصادات المتقدمة.

الواقع العملي يقدّم شواهد حادة على هذه المخاوف. فقد أعلنت شركات كبرى في قطاع التكنولوجيا والخدمات المالية عن تجميد أو إلغاء آلاف الوظائف الإدارية بعد اعتماد أنظمة ذكاء اصطناعي لإدارة الموارد البشرية والعمليات الداخلية. إحدى الشركات العالمية أعلنت رسميًا إيقاف توظيف نحو 7800 وظيفة إدارية، معتبرة أن الأنظمة الذكية قادرة على أداء هذه المهام بكلفة أقل. وفي قطاع الخدمات المصرفية الرقمية، صرّحت شركة أوروبية بأن مساعدها الذكي أنجز خلال عام واحد حجم عمل كان يقوم به نحو 700 موظف دعم. هذه الوقائع تعزّز حجة النقابات العمالية التي ترى أن كلفة التحول الرقمي تقع على عاتق العمال، بينما تُخصخص الأرباح لصالح الشركات.

** خبير إعلامي

الأكثر قراءة

z