مسقط- الرؤية
في هذا الموضوع، لا نفتح ملفات قضايا، ولا نعود إلى تفاصيل الماضي، بل نقترب من التجربة الإنسانية كما هي، شهادات من داخل المؤسسة الإصلاحية، تُروى بوعي ومسؤولية، وتسلّط الضوء على ما بعد الخطأ: لحظة التوقّف، وإعادة التفكير، وبداية التغيير.
ثلاثة نزلاء، تختلف خلفياتهم ومساراتهم، لكنهم يلتقون عند تجربة واحدة فرضت الانضباط، وفتحت باب المراجعة، ومنحت مساحة لرؤية الذات بشكل مختلف. نترك هذه الأصوات تتحدّث من داخل التجربة، بوصفها رسائل صادقة إلى المجتمع، وإلى كل من يؤمن بأن الإنسان قادر على تصحيح مساره حين تُتاح له فرصة حقيقية للتغيير.
"حين تعلّمتُ أن أتوقّف… الوعي الذي وُلد من الانضباط"
لم تكن مشكلتي يومًا في غياب الفرص، ولا في قسوة الحياة، بل في طريقة تعاملي معها. قبل دخولي السجن، كنت أعيش دون أن أتوقف كثيرًا للتفكير، لا أقيّم المواقف بعمق، ولا أعطي التفاصيل حقها من الاهتمام. كان الوقت يمرّ بلا تنظيم، والفراغ يُهدر، والحياة تميل إلى اللهو أكثر من التوازن، حتى غاب الانسجام بين متطلبات الدنيا والالتزام الروحي، وغابت معه القدرة على ترتيب الأولويات.
أكثر ما أندم عليه اليوم ليس قرارًا بعينه، بل حالة الاندفاع التي جعلتني أتعامل مع المال بوصفه غاية لا مسؤولية، انجرفت خلف تحسين سريع للمستوى المعيشي، دون أن أتوقف عند السؤال الأهم : من أين؟ وكيف؟
حُسن الظن بظاهر الأمور، وضعف الإلمام بالقانون، جعلا العواقب تبدو بعيدة… حتى وقعت.
اليوم، لا أبحث عن تبرير لما حدث، بل أتحمّل مسؤوليتي كاملة، ما جرى كان نتيجة غياب الوعي بعواقب القرار، ورسالة واضحة لي بأن كل خطوة تحتاج إلى حساب، وكل اختيار يستحق التريث. تعلّمت أن التسرّع لا يظهر خطره فورًا، لكنه يغيّر المسار لاحقًا.
قبل دخولي السجن، كنت أراه جدرانًا وقضبان، ومكانًا منبوذًا في الوعي المجتمعي، يُختزل فيه الإنسان في خطئه. لم أكن أتصور أن الصورة أوسع من ذلك. داخل المؤسسة، كان أول ما فاجأني هو الانضباط؛ نظام يومي صارم، واحترام للوقت، وقانون يُطبّق بعدالة، هذا الروتين لم يكن قيدًا، بل مساحة أعادت ترتيب أفكاري، وعلّمتني أن النظام قد يكون بابًا للاتزان لا للضغط.
أما التعامل من العاملين، فقد كشف لي فرقًا مهمًا بين الحزم والقسوة، هنا فهمت أن الحزم لا يُلغي الاحترام، وأن احترام الإنسان لا يعني التساهل مع الخطأ. مواقف إنسانية بسيطة، دون ضجيج، أكدت لي أن الهدف لا يقتصر على تنفيذ العقوبة، بل يمتد إلى الإصلاح والرعاية.
في جانب الإصلاح، لم تكن التجربة عاطفية بقدر ما كانت عملية. شاركت في برامج تدريبية وتعليمية، واكتسبت مهارات لم أكن ألتفت لأهميتها سابقًا: مهارة الحوار، والإنصات، والتفاوض، والتعبير المنظم عن الفكرة، وحتى تقديم عرض مرئي لمشروع. اكتشفت أن امتلاك الأدوات العقلية والتواصلية يغيّر طريقة التفكير قبل أن يغيّر السلوك.
أدركت أيضًا أن السجن ليس بالضرورة نهاية الطريق، بل قد يكون نقطة توقّف ضرورية لإعادة الحسابات. هو مساحة يراجع فيها الإنسان نفسه، وينظر بصدق إلى اختياراته، ويعيد رسم مساره بوعي أكبر.
رسالتي اليوم: الخطأ لا يبدأ دائمًا بنية سيئة، لكنه غالبًا يبدأ بقرار غير محسوب، والتوقف في الوقت المناسب قد يكون الفرق بين طريقين… أحدهما لا عودة منه.
الإنسان أولًا… شهادة من الداخل
لم أدخل السجن وأنا أتصوّر أن أكثر ما سأحتاجه هو الشعور بالأمان الإنساني! قبل ذلك، كنت أعيش حياة مستقرة؛ موظفًا في القطاع الحكومي، محاطًا بأسرتي وزملائي، منشغلًا بتفاصيل يومية بسيطة، لا أفكر كثيرًا في ما هو أبعد من محيطي القريب، لم أكن أرى في نفسي شخصًا مهددًا بالانكسار، ولا كنت أتخيّل أن الحياة قد تتغيّر بهذه السرعة.
كانت نظرتي إلى السجن قبل دخوله قاسية ومخيفة؛ صورة ذهنية تختزل المكان في العقاب، والضياع، وتشتّت الأسر، ومعاناة الأبناء، كنت أظن أن الدخول إليه يعني نهاية الاستقرار، وانقطاع الطمأنينة، وغياب الإنسان خلف الجدران.
لكن ما واجهته في الواقع كان مختلفًا.
منذ الأيام الأولى، لفتني أسلوب التعامل، لم أُعامل كرقم، ولا كحالة، بل كإنسان له كرامته، التعامل من العاملين كان راقيًا وإنسانيًا، مبنيًا على الاحترام، وهو ما يترك أثرًا عميقًا في النفس، خصوصًا في ظرفٍ يظنه الإنسان بطبيعته قاسيًا.
هناك مواقف تبقى عالقة في الذاكرة، لأنها استثنائية وصادقة، من بينها موقف وفاة أحد النزلاء، حيث سادت أجواء من التعزية والمواساة، والتواصل مع ذويه من قبل العاملين والموظفين في السجن، والوقوف الإنساني معه في محنته، لم يكن ذلك واجبًا وظيفيًا فحسب، بل موقفًا إنسانيًا خالصًا، أكّد لي أن الرحمة لا تتوقف عند الأبواب.
في هذه البيئة، بدأ الإحساس بالطمأنينة يعود تدريجيًا، ساعدني ذلك على التفرغ لمراجعة نفسي، دون خوف أو توتر دائم، البرامج الدينية، وتعلّم تجويد القرآن الكريم، وقراءة السنة النبوية، كانت مساحات هدوء داخلي، أعادت ترتيب علاقتي بنفسي وبالله، ومنحتني قدرة على الصبر والتسليم.
لم تكن التجربة بالنسبة لي رحلة تحليل أخطاء بقدر ما كانت تعلّمًا للسكينة، تعلّمت أن الإنسان حين يُعامل بكرامة، يصبح أكثر قدرة على التغيّر، وأكثر استعدادًا لمواجهة نفسه بهدوء.
اليوم، تغيّرت نظرتي إلى السجن. لم يعد في ذهني مجرد عقاب، بل تجربة تحمل وجهًا إنسانيًا، يمكن أن تكون مساحة احتواء وإعادة توازن، إذا حُفظ فيها جوهر الإنسان.
وأختم برسالة بسيطة:
حين يُقدَّم الإنسان أولًا، يصبح الإصلاح ممكنًا… ويصبح الأمل أقرب مما نتصوّر.
حين أعدتُ تعريف نفسي
لم تكن حياتي قبل السجن عشوائية أو فارغة، كنت شخصًا متعلمًا ومثقفًا، أنتمي إلى عائلة محافظة وواعية، وبنيت مساري التعليمي والمهني والاجتماعي بجهد شخصي، تجاوزت عثرات كثيرة، وحققت نجاحات جعلتني أصف حياتي آنذاك بأنها مستقرة وسعيدة، وكنت أفتخر بما وصلت إليه دون اعتماد على أحد.
لكن النجاح الظاهر لا يعني دائمًا اكتمال الوعي.
ما قادني إلى الخطأ لم يكن جهلًا، بل ابتعادًا تدريجيًا عن الله، وانشغالًا مفرطًا بأعمال الدنيا، وثقة زائدة ببعض الأشخاص دون تمحيص أو مراجعة، كنت أظن أن كل إنسان مسؤول عن أفعاله وحده، وأن حسن النية كافٍ لحمايتي من الخذلان، هذا التصور، مع الاندفاع وسوء التقدير وضعف الإيمان، قادني إلى قرار لم أتوقف عند عواقبه كما ينبغي.
عندما أنظر اليوم إلى ما حدث، أراه نتيجة طبيعية لتلك المرحلة؛ تهوّر، وثقة مفرطة، وسوء اختيار للمحيط؛ أدركت أن الوعي لا يُقاس بعدد الإنجازات، بل بالقدرة على التمييز، وضبط النفس، وحسن قراءة الناس والظروف.
قبل دخولي السجن، كنت أراه مكانًا مخيفًا، مؤسسة عقابية تُغلق الأبواب على الفشل، لم أكن أتصور أن الصورة أكثر تعقيدًا من ذلك، داخل المؤسسة، وجدت نظامًا واضحًا، وانضباطًا يخلق الأمان، وبيئة تتيح – بحدود – لمن أراد أن يتأمل نفسه ويعيد ترتيب أفكاره.
المعاملة التي وجدتها لم تكن قائمة على الإقصاء، بل على الاحترام المتبادل، مواقف إنسانية مررت بها، خاصة حين تعرضت لمحاولات إساءة بدافع الغيرة، كشفت لي قيمة الاحتواء؛ وقوف من يعرفونك إلى جانبك، مشاركتهم لك لحظاتك الصعبة، ومحاولتهم التخفيف من شعور الوحدة، خلق مساحة إنسانية تشبه العائلة داخل مكان يظنه الناس خاليًا منها.
في جانب الإصلاح، كانت البرامج الدينية التوعوية نقطة ارتكاز، لم تُقدَّم بوصفها دروسًا فقط، بل بوصفها تذكيرًا بأن ما نمرّ به قد يكون اختبارًا، وفرصة لمراجعة الإيمان، وإعادة بناء العلاقة مع الله، هنا تعلّمت عن نفسي أنني صبور، قادر على التكيّف، وأن لدي طاقة على التعايش مع اختلاف الشخصيات والثقافات، حتى في أصعب الظروف.
اكتسبت مهارات لم تكن في صدارة اهتمامي سابقًا: الحذر في التعامل، تقييم الأشخاص بوعي أكبر، التفكير قبل اتخاذ القرار، واستثمار الوقت فيما ينفع، سواء ثقافيًا أو رياضيًا أو روحيًا. أدركت أن قول “لا” في الوقت المناسب قد يكون أكثر إنقاذًا من مجاملة لا تُحسب عواقبها.
بدأت أشعر بأنني أستعيد نفسي عندما توقفت عن البحث عن أعذار، وبدأت أبحث عن معنى، فهمت أن هذه المرحلة ليست نهاية، إنما كفّارة وتصحيح مسار، وفرصة لصقل شخصية أقوى، أكثر وعيًا بذاتها، وأقل اندفاعًا لإرضاء الآخرين على حساب النفس.
اليوم، أرى السجن كما كنت أراه من حيث كونه مؤسسة لها حدودها، لكنني أراه أيضًا مساحة مفتوحة – بقدر – لمن أراد أن يطوّر نفسه بصدق. الدعم موجود، وثقافة التأهيل حاضرة، والعاملون يتعاملون مع النزيل بكرامة، دون تمييز، وهو ما يجعل التغيير ممكنًا لمن اختاره بوعي.
هذه التجربة أعادت تعريف نفسي لديّ.
لم أعد أقيّم ذاتي بما حققته فقط، بل بما تعلّمته، وبقدرتي على التوقف، والمراجعة، والبدء من جديد دون إنكار أو تزييف.





