الدبلوماسية العلمية وتعزيز التبادل الثقافي مع الصين

 

 

أ.د ابتسام محمد العامري **

 

تشكل المراكز البحثية ركيزة أساسية في الأنظمة الأكاديمية الدولية لما لها من دور كبير في تقوية العلاقات الثقافية والعلمية ليس بين الجامعات فقط بل بين دول العالم، فهي بمثابة نقاط محورية للتواصل والمشاركة، وأيضا وحدات رئيسية لإنتاج المعرفة الجديدة إذ تعد إدارة المعرفة العلمية أساساً لتطوير مراكز البحوث من حيث قدرتها على تطوير إمكانياتها ورفع مستوى كفاءتها وزيادة فاعليتها ونشاطاتها، ومع دخولنا عصر العولمة في تسعينيات القرن الماضي أصبح نقل المعرفة أكثر تواترًا وكثافة وسرعة بين الجامعات والمؤسسات العلمية في مختلف البلدان عبر وسائل مختلفة مثل الكتب والمؤتمرات وتبادل الباحثين وغيرها.

إن الاستجابة للعولمة وعملية التكامل الإقليمي دفع المراكز البحثية نحو توسيع آفاق تعاونها العابر للحدود بشكل مستدام خاصة بعد أن أصبحت الأبحاث وسيلة أساسية لحل المشكلات، لذا نجد أن العديد من الدول اتجهت الى زيادة ميزانية هذه المراكز وتنويع آليات تمويلها، ولا تشذ مراكز الأبحاث الصينية المتنوعة عن هذه القاعدة.

واستجابة لمتطلبات الضرورة العلمية ودعما لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينغ بينغ في عام 2013، ولتعزيز التعاون الدولي مع المنطقة العربية، تم تأسيس مركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية ليكون قاعدة الانطلاق الأساسية لدعم هذا التعاون في جانبه العلمي والثقافي.

وإذا كانت الاختلافات الثقافية بين مراكز الأبحاث عائقًا أمام التعاون، فإن هذا الأمر لم يقف عائقا  بين مركز التعاون الصيني العربي للإصلاح والتنمية ومراكز الأبحاث والجامعات العربية؛ فالتقارب الثقافي بين الحضارتين العربية والصينية والعلاقات التي ربطت بينهما على طول طريق الحرير القديم، وانضمام العديد من الدول العربية لمشاريع مبادرة الحزام والطريق، فضلًا عن عقد الشراكات الاستراتيجية بين الصين وبعض الدول العربية، واعتماد المركز اللغة العربية في تعاملاته مع المؤسسات الأكاديمية العربية، كل تلك العوامل شكلت فرصة للتعارف ومشاركة الثقافات والعادات، إذ كان هذا التبادل الثقافي مكسبا إضافيا ساهم في بناء علاقات جديدة وتوسيع الآفاق المعرفية في المجالين العلمي والأكاديمي، وفرصة لتعريف الباحثين من كلا الجانبين بثقافة كل بلد من بلدانهم.

يعد المركز الذي لم يتجاوز عمر تأسيسه العشر سنوات أحد أبرز المراكز الصينية التي أثبتت وجودها على الساحة الأكاديمية الصينية، إذ تأسس هذا المركز عبر إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ في كلمته التي ألقاها خلال زيارته لجامعة الدول العربية في ديسمبر 2016 عن قرار إنشائه وتم افتتاحه في 20 أبريل 2017 ليكون قاعدة لتبادل الرؤى والخبرات بين الصين والدول العربية في مجالات مختلفة، وهذا ما أكده الرئيس الصيني خلال الاجتماع الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني العربي ببكين في عام 2018 بالقول "إن مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية يعمل بشكل جيد وقد أصبح منصة فكرية لتبادل الخبرات في مجال الإصلاح والانفتاح وحكم البلاد وإدارتها بين الجانبين الصيني والعربي، وفي المستقبل سيصبح المركز أكبر وأقوى لتقديم المزيد من الدعم الفكري للجانبين".

وفي هذا الجانب يحرص المركز على الاسترشاد بفكرة الرئيس الصيني في الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، واستضافة الباحثين الأكفاء من جميع أنحاء العالم لاستحضار دبلوماسية الدول الكبرى ذات الخصائص الصينية، ولبناء علاقات ذات مصير مشترك بين المجتمع الصيني والمجتمعات العربية، والعمل الجدي في مجال الإصلاح والتنمية.

تمكن المركز من تحقيق العديد من أهدافه وأبرزها إعطاء التعاون العربي الصيني في المجال الثقافي دفعة قوية من خلال العمل على إنشاء 4 منصات؛ هي: أولًا: الدورات الدراسية، ثانيًا: إعداد الكفاءات، ثالثًا: البحوث، رابعًا: الدراسات والتواصل.

فعلى المستوى الأول قام المركز بتنظيم 27 دورة دراسية شارك فيها 631 مسؤولا عربيا، وانقسمت هذه الدورات على ثلاثة أنواع؛ هي: أولها: المتعددة الأطراف التي ضمت عدة دول عربية، وثانيها: المخصصة لدولة واحدة، وثالثها: المخصصة للدبلوماسيين العرب المقيمين في الصين، وتنوعت مواضيع هذه الدورات بين السياسة والدبلوماسية والثقافة والتعليم والتنمية الاقتصادية والحكم والادارة.

أما المستوى الثاني فتحدد في برنامج إعداد المترجمين العرب للغة الصينية، الذي أسهم في تخريج 120 مترجمًا عربيًا، فضلًا عن استقبال برنامج الدراسات العليا في الدراسات الصينية لـ15 طالبًا عربيًا من الأردن واليمن ومصر وغيرها.

وتضمن المستوى الثالث عقد 5 دورات من منتدى التعاون الصيني- العربي للإصلاح والتنمية الذي تنظمه وزارة الخارجية الصينية بالتعاون مع مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية، ويعد المنتدى منصة مهمة للحوار بين الحضارتين الصينية والعربية تهدف لتبادل الخبرات في مجالات الإصلاح والتنمية وحكم الدولة وإدارتها، وهو إحدى الآليات التسعة عشرة المنبثقة عن منتدى التعاون الصيني- العربي.

ويعنى المستوى الرابع بالتواصل الإنساني والثقافي عبر قيام المركز بتنظيم زيارات لـ59 وفدًا عربيًا بإجمالي عدد وصل إلى 346 شخصًا تنوعت ما بين مسؤولين حكوميين ومؤسسات فكرية وإعلامية وشباب، كما قام المركز بتنظيم 23 زيارة إلى جامعات ومؤسسات فكرية عربية، وشارك في 45 مؤتمرًا دوليًا ساعد من خلالها في تعميق التبادل الإنساني وتعزيز التعاون العلمي ودعم المواءمة الاستراتيجية مع الدول العربية.

لم يقتصر نشاط المركز على هذه المنصات وإنما قام بتنظيم نشاطات أكاديمية وعلمية وإعلامية، فعلى الجانب العلمي قام المركز بتنظيم نشاطات متنوعة منها 10 ندوات أكاديمية و29 محاضرة فكرية و48 مؤتمرًا دوليًا، فضلًا عن ندوات للخبراء واجتماعات تشاورية وجلسات تخصصية لعرض التقارير، مع توقيع اتفاقيات تعاون استراتيجي مع مؤسسات فكرية في مصر والعراق والسعودية وغيرها، علاوة على إقامة تعاون وثيق مع أكثر من 20 مؤسسة فكرية ومع جامعة الدول العربية. وبما أن المركز يعمل كمنسق للرابطة الصينية- العربية لذا قام بقيادة 18 مؤسسة فكرية وجامعة ومعهدًا متخصصًا لتمثل الجانب الصيني في هذه الرابطة، وهذا الدور يحسب له إيجابيًا رغم قصر سنوات عمله.

أما على الجانب الإعلامي؛ فللمركز هدف يتمثل في تعريف العالم بالصين وإيصال صوتها في جميع المحافل العلمية، لهذا دأب باحثو المركز وتحقيقا لهذا الهدف بنشر 149 مقالًا في وسائل إعلام صينية ودولية وأجروا 81 مقالة صحفية، فضلًا عن قيام الباحثين العرب المتعاونين مع المركز بنشر 63 مقالًا حول الصين. ولقد لفتت هذه النشاطات أنظار وسائل الإعلام الصينية التي قامت بنشر 373 تقريرًا عن انشطة المركز حققت 10 ملايين مشاهدة، كما تلقى المركز 40 رسالة شكر من وزارة الخارجية ودائرة العلاقات الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني والسفارات الصينية في الدول العربية والمؤسسات الفكرية الاجنبية.

وباعتباري أحد المستفيدين من برامج مركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية منذ عام 2018 ومشاركتي في معظم نشاطاته التي عقدها بعد هذا التاريخ، فضلًا عن عملي فيه بشكل مباشر كأستاذ زائر في عام 2019 أستطيع القول إن المركز يعد من المراكز النشطة والفعالة التي استطاعت بناء علاقات بناءة وهادفة مع الجامعات والمؤسسات البحثية والخبراء في الدول العربية، وتمكن خلال فترة قصيرة من اثبات وجوده على ساحة البحث العلمي العالمية من خلال نشاطاته العلمية وشراكاته الدولية المتعددة.

حقق الانفتاح والتعاون الذي تميز به مركز الدراسات الصيني- العربي نجاحًا كبيرًا، ففضلًا عن النشاطات المذكورة اعلاه، فقد استطاع المركز تحسين سمعته وجودته الاكاديمية من خلال التعاون مع المؤسسات والباحثين العرب مما مكنه من الاطلاع على مصادر متنوعة من المعرفة والخبرة، ويؤدي هذا التبادل العالمي للأفكار الى نتائج بحثية اكثر ابتكارًا وشمولية وتأثيرًا، كما نتج التعاون البحثي عن منشورات عالية الجودة ونتائج كبيرة، مما ساعد على ارتفاع مكانة المركز وصورتها في الأوساط الأكاديمية العربية والدولية، وستجلب هذه السمعة الجيدة بطبيعة الحال المزيد من التمويل والباحثين الموهوبين مما يخلق دورة من التميز والتحسين.

كما تمكن المركز من خلال التعاون مع الشركاء الدوليين ومنهم العرب من توسيع آفاق البحث وموارده عبر توفيره فرصا بحثية عديدة ومعرفة جديدة وبيئات متميزة ضرورية لمجالات بحثية معينة وتطوير حلول أكثر واقعية من خلال تجميع المعارف والخبرات والموارد من الصين والدول العربية، مما يبرز أهمية دور المراكز البحثية في إحداث تغييرات في السياسات الصينية –العربية وتعزيز الشعور بالمسؤولية وتعزيز العلاقات الثنائية.

لم يقتصر التعاون بين المركز والمؤسسات البحثية العربية على التبادل الأكاديمي فحسب وإنما شمل أيضا التبادل الثقافي، فالتفاعل بين الباحثين من الصينيين والعرب سيُعزز من فهمهم واحترامهم للثقافات والآراء المختلفة، ويثري هذا التبادل الثقافي المجتمع البحثي الأكاديمي ويعزز من الشمول والتنوع، وهذا التعاون يمكن أن يمهد السبيل لتعاون أكبر وجديد في مختلف المجالات مثل البرامج المشتركة وفرص تبادل الباحثين مما يعزز مشاركة المركز وحضوره العالمي، ويشجع على تبادل الأفكار والثقافات والرؤى لمواجهة التحديات العالمية المعقدة.

** كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد

** مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بجامعة بغداد سابقًا

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z