الاجتهاد الانتقائي

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

حين تُصدر بعض الجهات الحكومية قراراتٍ تهدف إلى تنظيم الصرف أو ترشيد الإنفاق، فإنَّ المبدأ في ذاته لا يثير خلافًا، ولا يُقابَل بالرفض؛ فالمال العام أمانة، والحوكمة ليست خيارًا إداريًا يمكن تجاوزه؛ بل ضرورة وطنية تفرضها المسؤولية وحساسية المرحلة. غير أن الإشكال الحقيقي، في كثير من الأحيان، لا يبدأ من القرار ذاته؛ بل من الطريقة التي يُترجَم بها عند التنفيذ على أرض الواقع.

في هذه المساحة الفاصلة بين النص والتطبيق، يتسلل أحيانًا اجتهادٌ شخصي غير منصوص عليه، يُقدَّم تحت عناوين مثل «الضوابط» و«الترشيد». ومع هذا الاجتهاد، يُعاد تفسير القرار بطريقة تُضيّق دائرة المستفيدين، وتُقلّص المزايا أو المخصصات المالية عن فئات كانت مشمولة، في الأصل، بروح القرار ونصّه الصريح. ولا يحدث ذلك دائمًا بنية الإقصاء أو التضييق، غير أن أثره العملي يصل إلى المواطن كما لو كان كذلك، حين يشعر أن ما وُعِد به تغيّر عند التطبيق، وأن النص لم يُنفَّذ بالمعنى الذي فهمه أو انتظره.

المواطن المتأثر لا يُخاصم الحوكمة، ولا يعترض على التنظيم؛ بل يتساءل بهدوءٍ مشروع: لماذا يتغيّر القرار عند التطبيق؟ ولماذا يتحوّل النص العام إلى قيودٍ إضافية لم تُذكر صراحة؟ فعندما يُترك التنفيذ لاجتهادات فردية متباينة، يغيب معيار العدالة الواضح، ويحلّ محلّه تفاوتٌ في التطبيق يُربك الثقة، ويُضعف شعور المواطن بالإنصاف، ويترك لديه إحساسًا بأن القاعدة لم تُطبَّق على الجميع بالميزان نفسه.

وتتّسع هذه الأسئلة أكثر حين يُقارن المواطن بين صرامة التطبيق في موضعٍ ما، ومرونته في مواضع أخرى. فالمفارقة التي لا تخفى على كثيرين أن هذا الاجتهاد الصارم في الترشيد لا يظهر بالدرجة ذاتها في مجالات أخرى. ففي الوقت الذي تُطبَّق فيه المعايير بصرامة على مستفيدٍ ينتظر مخصصًا أو ميزة تمس استقراره المعيشي، تمر مصروفات على احتفالات ومناسبات وفعاليات متعددة، لا يعود كثير منها بأثرٍ ملموس على أداء المؤسسة أو جودة خدماتها، وغالبًا ما تمر دون أن تُقابل بالحرص نفسه، أو بالأسئلة ذاتها حول الجدوى والأولوية وترشيد الإنفاق.

وهنا لا يكون السؤال اتهامًا؛ بل مراجعة منطقية ضرورية: أليس ترشيد الإنفاق مبدأً عامًا يُفترض أن يسري على جميع أوجه الصرف دون استثناء؟ أم أنه يُفعَّل حيث يكون التطبيق أسهل وأقلّ كلفة؟ فالحوكمة المتوازنة لا تنتقي مواقع التطبيق، ولا تُمارس بوجهٍ واحد؛ بل تُطبَّق على الجميع بالمعيار نفسه، وبالروح ذاتها التي قامت عليها.

إنَّ العدالة في التنفيذ لا تقل أهمية عن سلامة القرار؛ بل تُعد شرطًا أساسيًا لنجاحه واستدامته. فالقرارات التي تُدار بعقلٍ مالي منضبط، وتُنفّذ بعقلٍ إداري عادل، هي وحدها القادرة على حماية المال العام دون أن تُثقل كاهل المواطن، أو تُضعف ثقته بالمؤسسة، أو تخلق فجوة صامتة بين ما يُعلَن من سياسات، وما يُمارَس فعليًا على أرض الواقع.

ختامًا، لا يطلب المواطن استثناءً، ولا امتيازًا خارج النظام؛ بل يطلب وضوحًا واتساقًا وإنصافًا. أن تُطبَّق الحوكمة بروحها الكاملة، لا بانتقائية، وأن يكون ترشيد الإنفاق مسؤوليةً شاملة، لا عبئًا يُحمَّل على طرفٍ واحد دون سواه. عندها فقط، يصبح القرار أداة إصلاح حقيقية تُعزّز الثقة، لا سببًا لشعورٍ صامتٍ بالخذلان.

الأكثر قراءة

z