صوت هند

 

 

 

هند الحمدانية

لا يُشَاهَد صوت هند رجب كما تُشاهد الأفلام عادة، ولا يغادر المُشاهِد قاعة العرض وهو مطمئن إلى أنَّ الحكاية قد انتهت، يخرج محملا بثقل داخلي لا يعرف كيف يتعامل معه، ذنب غير معروف، وشعور مبهم بأن شيئاً ما كان يجب أن يحدث ولم يحدث.

يقدم هذا العمل السينمائي من إخراج المخرجة التونسية كوثر بنت هنية وبدعم لافت من وزارة الشؤون الثقافية التونسية، نموذجا نادرا لدور الثقافة العربية حين تنحاز للإنسان قبل أي اعتبار آخر، يثبت الفيلم أن دعم المؤسسات الثقافية يعد موقفا أخلاقيا ووسيلة لمساءلة الصمت العالمي وشكلا من أشكال المقاومة التي تستقبلها المهرجانات ودور العرض وضمائر الناس، وتفتح أبواب التغيير دون أن تطرقها بعنف.

يوثق الفيلم اللحظات الأخيرة من حياة الطفلة الفلسطينية ذات الخمسة أعوام هند رجب عبر خيار فني جريء بالاعتماد على الصوت وحده، دون صور القصف أو مشاهد العنف المباشر، يترك صوت هند الحقيقي، غير المؤدى وغير المصطنع، يتقدم المشهد كاملا، حاملا معه الخوف والانتظار والرجاء، ومشاعر جديدة وغريبة تختبرها هند للمرة الأولى والأخيرة.

يختار العمل الصوت بدل الصورة عن قصد، لا بوصفه حيلة فنية، بل امتدادا لحس إخراجي أنثوي يعرف أن الألم لا يقاس بكمية الدم المسفوكة، بل بعمق الانتظار والصمت، يأتي هذا الخيار من مخرجة تركت لنا صوت هند منتظرا ومعلقا بلا إنقاذ، وهنا استقر صوت الطفلة هند في القلب والذاكرة للأبد، مهما حاول المشاهد أن يقنع نفسه بأنَّ ما شاهده مجرد فيلم، ليتردد السؤال: متى ستأتون؟ متى ستأخذونني؟ أنا خائفة... تعالوا.

يبلغ الوجع ذروته حين يطلب من أم هند أن تتحدث معها عبر الهاتف، في مُحاولة لتهدئتها بينما فريق الإسعاف يحاول الوصول، حيث تتحول المكالمة إلى لحظة إنسانية قاسية، تتحدث فيها أم تعرف أنَّ طفلتها محاصرة داخل سيارة مقصوفة، وسط دبابات، ومحاطة بأجساد أفراد عائلتها الذين فارقوا الحياة: خالها، زوجة الخال، وأربعة من أبنائهما، تحاول الأم أن تمنح الطمأنينة لهند مُجبرة على تمثيل القوة في أكثر لحظات العجز قسوة.

تطرح هذه اللحظة أسئلة لا يقدم الفيلم لها إجابات جاهزة: كيف لأم أن تهدئ طفلتها وهي تعلم أنها محاصرة وسط الموت؟ كيف لهذه الأم أن تكون هي هادئة؟ وكيف يمكن لصوت صغير أن يحمل هذا الكم من الخوف والرجاء والانتظار والرهبة والأمل والترقب في آن واحد؟ يترك الفيلم هذه الأسئلة معلقة، دون تفسير ودون محاولة للتخفيف من ثقلها.

يمتنع الفيلم عن استعراض مشاهد القتل أو إعادة تمثيل العنف، ويختار بدل ذلك أن يترك المشاهد وحيدا مع الانتظار، ومع الدقائق الأخيرة التي سبقت النهاية، ومع الصمت الذي طال أكثر مما ينبغي، فهو يثبت أن الغياب أحياناً أوجع من الحضور، وأن ما لا يعرض قد يكون أقسى مما يُرى، ثم يكشف انقطاع الصوت بعد محاولة وصول سيارة الإسعاف حجم الانكسار الإنساني دون الحاجة إلى عرض صورة واحدة، فالصمت المفاجئ بعد صوت قصف الدبابات كان كافياً ليدرك المشاهد أنَّ الأمل الذي كانت هند في انتظاره لم يصل ولن يصل، فينتقل الفيلم هنا من كونه عملاً سينمائياً إلى كونه قضية إنسانية معلقة.

يحصد صوت هند رجب تقديرا عالميا واسعًا بمشاركته في مهرجان البندقية السينمائي في دورته الثانية والثمانين لعام 2025م، وحصوله على جائزة الأسد الفضي، إلى جانب إشادة نقدية كبيرة، يعرض الفيلم اليوم في عدد من الدول العربية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا والبرتغال واليابان وتركيا وهونج كونج وغيرها من دول العالم، ويقدم كأحد الأعمال المرشحة بقوة للجوائز السينمائية الكبرى.

يتجاوز الفيلم قيمته الفنية إلى أثره الإنساني، إذ يخرج المشاهد منه مثقلا بذنب لا يعرف كيف يتخلص منه، لأنه سمع، ولأنه عرف، ولأنه لم يكن قادرا على أن يفعل شيئاً سوى المشاهدة.

ولهذا فإنني أدعو القارئ الكريم حيثما كان: خذ عائلتك إلى دار السينما، وشاهد صوت هند رجب، لتدركوا ما يحدث هناك، بعيدا عن المسافات والعناوين، وقريباً من الصوت الإنساني، شاهدوه لكي يظل صوت هند يتردد في الآذان، ويصل إلى مسامع الضمائر، ولكي يظل صوت هند رجب مسموعا إلى الأبد.

 

 

الأكثر قراءة

z