عروس مُهداة للنيل (الحلقة الأخيرة)

 

 

 

مُزنة المسافر

 

هل غطست؟ عامت ونامت وسط النيل؟ يا لطيف ألطف برحمتك! هل حدث فعلًا ذلك أم نامت هي وسط الكوابيس. أضيئوا أحلامها بالفوانيس، الحلوة راحت في نوم عميق، ومن هو يا ترى قد صار الغريق؟ عانت لكنها تمادت، وهل سلبت ونهبت الأرض لتكون اليابسة عابسة عليها، لتلقي بها في الماء.

نوسة: لاااااااا!.

استفاقت نعيمة والدة نوسة وبحثت عن شيطان ما وسط المكان، وقالت بالمعوذات.

نعيمة: اِخزي الشيطان، حصل إيه يا نوسة!

نوسة: هل غرقتْ؟

نعيمة: غرقتِ!؟

غرقت يا نعيمة بين أحلام بعيدة وأوهام كثيرة، كانت تحب ابن البيه، وكانت عيونها تطلب الصيغة، والكحل وتأتي بالحيلة لتكون الجميلة في القرية.

نعيمة: إنتِ كويسة يا حبيبتي؟

نوسة: نعم أنا بخير.

تستفيق نوسة وتأخذ نفسها بعيدًا عن منزل العريش، تعقد منديل أبو أُوية، وتغيب في طريق ترابي يؤدي إلى السراي.

في السراي، تطلب من الحارس أن يخبرها أين هو رمزي، لم يظهر منذ أيام، ربما هو في القاهرة أو في القرية المجاورة لقد خرج بالعربية، لا يعرف الحارس إلى أين.

أرادت نوسة أن تخبر رمزي عن نهاية واضحة، صريحة مريحة للجميع، لكنها تخشى أن تخبره أن عروس النيل قد تلاحقها، لابد أن يعود وتخبره بوضوح عن أشباح تجري ورائها، عروس النيل وغيرها ممن يريدونها غريقة، ويجدون الطريقة لأن تغوص وأن لا تعود.

ماذا تفعل؟ ماذا لو لم يظهر رمزي البتة؟

هل هو يشعر بالوحدة؟ وماذا لو وجدته عروس النيل؟

وأصابت قلبه بسكين وغطته بمنديل.

ليختفي وينجلي عنها ويروح ويزول.

رمزي في العربية، أمامها لقد وجدها تعبر الطريق إلى الحقول، صدح باسمها: نوسة!، كنتِ فين؟

نوسة: رمزي اليوم موعد إلقائي في النيل، ستلقيني الأشباح في الماء، ذهبتُ للسراي حتى أقول الوداع.

رمزي يمسك بكتفي نوسة، ماذا تقولين يا مجنونة؟ ماذا دهاكِ يا حلوة؟ تسمحين لشبحٍ أن يوسوس لنفسك كلمات الحيرة، ربما هي من الغيرة، تعالي اجلسي في العربية.

ترفض نوسة أن تستمع إلى رمزي، وتهرب من وجوده ومن غروره، ومن بُعده وقُربه، لا تريد أن يكون خلفها أو حولها، إنه سراب خراب، فلتذهب للنيل حيث تكون وحيدة، وقد تكون وسط الماء بعيدة عنه.

قلبه يهرول، وعينها تجد الفرار بقلب حر، ستكون هذه المرة إرادة الأشباح والأطياف هي بالطبع  المسؤولة عن نهاية معقولة لهذه الحكاية المعنية بالعذاب.

عودي يا نوسة! يصدح رمزي يهرول خلفها، لقد سقط من قلبها، لقد بعثر أوراق البخت العظيمة، لقد نسي أن يكون في أفكارها، لن يغيب، لن يقول إلا بالحب.

نوسة قريبة من الماء، اتركوها يا عباد، يا من تعبثون بكل من في البلاد، لم يعد هناك حب يا نوسة، هرولي والْقِي بنفسك في الماء؛ فهو الحياة الجديدة، الآخرة السعيدة.

النهاية، وليس هناك بداية أخرى مع رمزي.

نوسة: حرمي نفسي في الميه، بس خلاص كده.

رمزي: ليه يا نوسة؟

نوسة: إنك تتلاعب بمشاعري، غموضك يزعجني، وغرورك يقتلني، اتركني أدفن نفسي وسط تيار رحيم، يكسر ضلوعي ويبدد وجودي.

رمزي: لا يا نوسة، سألحق بكِ إلى أي مكان.

نوسة: لا من مكان لك في قلبي.

نوسة تقترب من صخرة صماء تؤدي إلى المياه، وهنا تجد نفسها شاعرة بالبهجة، ومهجة قلبها تقول لها روحي يا حلوة، اقفزي اصعدي بروحك للعلياء، انهي وجودك يا جميلة، فأنتِ عروس النيل الجديدة.

قفزت! وبددت حلاوة الوقت الذي ضاع، راحت وتناست رمزي والسراي والعربية، ومنزل العريش ونعيمة وعبدالرؤوف، والقرية والأراجواز، وكل من قصَّ حكايتها على مسمع الجميع، فليسمعوا حكاية غريبة سيحكيها رمزي وحيدًا هذه المرة، أنه ضيع نوسة، وبدد شعورها وقادها للجنون والمجون.

رمزي خلفها، يبحث وسط الماء عن جسدها، يغطس غطسًا عميقًا، أين هي؟ يسبح من أجلها، فلتعُد نوسة، إلى فؤاده وإلى وصاله، لقد قطعت كل حبال الحب، لم يعد هناك غير الشموع والدموع، لقد راحت نوسة، ولم يجدها رمزي ولم تجد نفسها إلّا أن تكون القربان الذي سينادي عليه النيل دهورًا طويلة، ولن ينسى أهل القرية العار الذي جلبه رمزي لحبيبته، ولن يعتقه الكلام عنها، ولم يرى أحد أن نوسة قفزت، من أخذها نحو التيار، إنه هو يا ستار، قادها للأفل والذهاب، والرحيل والغياب، بكلماته وسلوكه، قادها للموت يا عباد، إنه بالطبع الجلاد!

تجمَّع أهل القرية حول جسد نوسة، جذعها الجميل قد انجلى، وحياتها صارت بلا أنفاس، وروحها غابت في الهواء، ورمزي يبكي للماضي، الذي صوَّب نحو قلبها بندقية، وقد حطمها بالخوف والتعب، إنها نهاية عادلة لمن عانى ومن غالى على الغير، إنها عدالة تُصوب في رأس السراب، نامي بسلام يا صغيرة في التراب، فلتبكي القرية عليكِ للأبد.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z