حين تُستعاد الأحلام

 

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

ليس الإصلاح الحقيقي مجموعة قراراتٍ تُعلَن، ولا خططًا تُدوَّن في وثائق رسمية، بقدر ما هو شعورٌ عامٌّ يتسلّل إلى الناس بأن الغد يمكن أن يكون أفضل من اليوم؛ فالإصلاح، في جوهره، يبدأ حين يشعر الإنسان أن صوته مسموع، وأن جهده ليس عبثًا، وأن مستقبله لا يُدار خلف الأبواب المغلقة. وحين تُستعاد الأحلام، تستعيد المؤسسات معناها، ويستعيد العمل قيمته، ويستعيد الوطن قدرته على النهوض من الداخل… لا عبر الشعارات، بل عبر الثقة التي تُبنى خطوةً خطوة.

تبدأ الأزمات الكبرى حين يفقد الناس إيمانهم بأن الجهد يُكافأ، وبأن الطريق مفتوح أمام من يستحق. عندها تتآكل الثقة، لا بسبب قلة الموارد أو صعوبة الظروف، بل لأن الإحساس بالعدالة يغيب، ويحلّ محلّه شعورٌ ثقيل بأن الفرص لا تُصنع للجميع، وأن المعايير لا تُطبَّق على الجميع بالميزان ذاته. وفي هذا المناخ، يصبح الإصلاح قرارًا مؤجَّلًا، مهما كثرت المبادرات، لأن الأفكار الجيدة لا تنجح في بيئةٍ فقدت ثقتها بجدوى المحاولة.

إنَّ استعادة الأحلام لا تعني بيع الوهم، ولا رفع سقف التوقعات دون قدرة على الوفاء، بل تعني شيئًا أبسط وأعمق: أن يشعر الإنسان بأن صوته مسموع، وأن جهده مرئي، وأن مستقبله لا يُدار بالصدفة، ولا يُختصر في القرب أو المجاملة. حينها فقط، تتحول القوانين من نصوص جامدة إلى مظلة إنصاف، وتتحول المؤسسات من هياكل صامتة إلى مساحات أمان، يشعر فيها الفرد أن النظام وُجد ليحميه لا ليُقصيه، وليمنحه فرصة عادلة لا استثناءً مؤقتًا.

وفي التجارب الناجحة، لم يبدأ الإصلاح من الأعلى وحده؛ بل من إعادة بناء العلاقة بين القرار والإنسان. قرارٌ يُشرَح قبل أن يُنفَّذ، وخيارٌ تُعرَض أسبابه لا نتائجه فقط، ومسؤوليةٌ تُربَط بالأثر لا بالمنصب. هذا النمط من الإدارة لا يُلغي الأخطاء، ولا يدّعي الكمال، لكنه يمنح الناس القدرة على تفهّم القرارات، وتحمل تبعاتها، والتعامل معها بوصفها جزءًا من مسارٍ واضح لا مفاجآت فيه ولا غموض.

وحين يشعر الموظف أن جهده مُقدَّر، لا مُراقَب فقط، وأن خطأه يُعالَج لا يُستَغل، تتغيّر بيئة العمل جذريًا. يتحوّل الالتزام من خوفٍ إلى قناعة، وتتحوّل الرقابة من عبءٍ ثقيل إلى شراكةٍ واعية، ويصبح النجاح الجماعي أهم من النجاة الفردية. في مثل هذه البيئات، لا يعمل الناس لإرضاء المدير، بل لإرضاء ضمائرهم المهنية، ولا يسعون لتجنّب الخطأ بقدر ما يسعون لتصحيحه. هنا يبدأ الإصلاح من الداخل، لا بضغطٍ خارجي، بل بقناعةٍ ذاتية تُنتج استدامة لا تُفرض بالقوة.

كما إن إشراك الناس في القضايا التي تمس حياتهم اليومية، والاستماع إلى آرائهم بجدية، لا يُضعف القرار كما يُظن؛ بل يُحصّنه ويمنحه مشروعية أوسع. فالمجتمعات لا ترفض القرارات الصعبة بقدر ما ترفض الغموض، ولا تعارض الإصلاح بقدر ما تُعارض الإقصاء من الفهم والمشاركة. وحين تُبنى القرارات على قراءة واقعية لتأثيرها الفعلي في حياة الناس، وتُشرح دوافعها قبل نتائجها، تصبح أكثر استدامة، وأقل كلفة، وأقرب إلى القبول حتى وإن كانت مؤلمة.

إنَّ الإصلاح الحقيقي لا يُقاس بسرعة الإنجاز؛ بل بعمق الأثر الذي يتركه في حياة النَّاس. ولا يُقاس بعدد المشاريع التي تُعلن، بل بعدد الأحلام التي أُعيد إليها الاعتبار، والفرص التي استعادت معناها. والأوطان التي تنجح ليست تلك التي تملك كل شيء؛ بل تلك التي تعرف كيف تُنصف الإنسان، وتمنحه سببًا ليؤمن بما يفعل، ويعمل بإخلاص، وينتمي بثقة إلى مستقبلٍ يشعر أنه شريك في صناعته لا مجرّد شاهدٍ عليه.

وحين تُستعاد الأحلام، لا يعود الإصلاح شعارًا يُرفع؛ بل مسارًا يُعاش. مسارٌ يبدأ بالثقة، ويستمر بالعدالة، ويكتمل حين يشعر الناس أن لهم مكانًا حقيقيًا في مستقبلٍ يُصاغ معهم… لا عنهم، وأنهم جزء من الحل لا هامش في الحكاية.

الأكثر قراءة

z