المجد في الأصالة

 

 

صالح بن سعيد الحمداني

 

 

 

في عالم اليوم تزداد المنافسة على ما يُسمى "الحياة المثالية" حيث يسعى الكثيرون خلف السراب اللامع المال، الشهرة، الألقاب، والمظاهر البراقة، ومع هذا الركض المحموم يغفل الكثيرون عن القيمة الحقيقية لما يحملونه في داخلهم وعن المعايير التي تُحقق لهم السعادة والاستقرار النفسي، وفي هذا السياق تظهر الحكمة القديمة "أن تحظى بأشياء قليلة صادقة خير لك من أن تحظى بأشياء كثيرة مزيفة، وهذه الفكرة ليست مجرد نصيحة أخلاقية ولكنها قاعدة حياتية عملية، فالحياة قصيرة والوقت محدود والطاقة النفسية لا تحتمل الانشغال بما لا قيمة له، اختيار القليل الصادق- سواء في العلاقات أو الإنجازات أو الممتلكات- يمنح الإنسان راحة ووضوحًا في التفكير واتزانًا في القرارات.

الركض وراء الكم الكبير من الأصدقاء والعلاقات أو الممتلكات وغالبًا ما ينتهي بالشعور بالفراغ، فالأمر ليس في عدد ما تملك أو تعرف ولكن في جودة ما تملكه وما تعرفه، فخذ مثلًا العلاقات الإنسانية صديق واحد صادق يُساندك في أوقات الشدة أكثر قيمة من عشرات المعارف الذين يختفون عند أول أزمة، والأمر نفسه ينطبق على العمل والإنتاجية فإنجاز واحد ذو قيمة حقيقية يفوق مئات الأعمال التي تُنجز بلا هدف أو تأثير، وهذه القاعدة كذلك تنطبق أيضًا على الأشياء المادية المنزل الفاخر أو السيارة البراقة قد تمنح شعورًا مؤقتًا بالرضا ولكنها لا تُسعد الروح كما تفعل قطعة فنية تحمل قصة أو هدية صادقة من شخص قريب.

في زمن يغمره الانبهار بالمظاهر يصبح التركيز على الجوهر تمرينًا نادرًا على الصبر والوعي، فالجوهر هو ما يبقى حين يتلاشى البريق وهو ما يمنح الحياة معنى أصيلًا، والجوهر يتجلى في الصفات الإنسانية الصدق والنزاهة والتعاطف والشغف بما تفعل والقدرة على الاستماع والقدرة على تحمل المسؤولية، فإن الشخص الذي يعيش وفق جوهره لا يخاف من النقد ولا يغرق في مقارنة نفسه بالآخرين لأنه يعرف أن قيمته الحقيقية تكمن في ما هو عليه لا في ما يراه الناس، في امتلاك الصوت الخاص والرؤية الفريدة، فالتحدي الأكبر في عصر التشابه والتناسخ هو الحفاظ على الهوية الشخصية، كثيرون يتبعون تيارات الموضة، الأذواق الجماعية أو تصورات الآخرين عن "الحياة الناجحة" فينسون صوتهم الخاص، وإن امتلاك الصوت الخاص يعني أن يكون لديك رأي مستقل ورؤية تعبّر عنك وقرارات مستندة إلى قيمك وليس إلى ضغط المجتمع أو الاتجاه السائد، وهذا الصوت هو ما يميزك عن الآخرين ويمنح حياتك معنى ويحقق لك شعورًا بالمجد الداخلي الذي لا يمكن شراؤه أو تزويره.

وفي الحياة اليومية نرى من اختاروا الطريق الأصلي بدل التقليد كيف أصبحوا قدوة للآخرين، كالمبدعين الذين رفضوا الانصياع لمطالب السوق الضاغطة وخلقوا أعمالًا فنية تحمل بصمتهم الشخصية فتجاوزت قيمتها الوقت والمكان، أو رجال الأعمال الذين بنوا شركات صغيرة قائمة على قيم صادقة وموظفين متفانين رغم أن منافسيهم ركضوا خلف الأرباح السريعة فقد كسبوا احترامًا ومصداقية طويلة الأمد، وعلى مستوى العلاقات نجد أن الأسرة التي تبني روابطها على الصدق والاهتمام الحقيقي تتفوق على العلاقات الواسعة السطحية لأنها تضمن الدعم المتبادل والثقة المستمرة، التمسك بالقليل الصادق وبالجوهر وبالصوت الخاص له تأثير عميق على الصحة النفسية، فهو يقلل من التوتر الناتج عن المقارنات الاجتماعية ويزيد من الشعور بالرضا الذاتي ويعزز القدرة على التركيز على أهداف حقيقية ومجدية، والأشخاص الذين يركزون على الجودة والصدق يعيشون حياة أكثر وضوحًا واتزانًا بينما الذين يركضون خلف السراب يجدون أنفسهم في دائرة لا نهاية لها من القلق، القلق من الرأي العام ومن الخسارة المؤقتة لكل ما يملكون.

وخلاصتنا بعيدًا عن السراب اللامع الذي يركض خلفه أغلب البشر يكمن المجد الحقيقي في الأصالة أن نحتفظ بالقليل الصادق ونركز على القيمة لا الكم على الجوهر لا المظاهر ونحافظ على صوتنا الخاص ورؤيتنا الفريدة، وإن هذا النهج ليس مجرد اختيار شخصي؛ بل استراتيجية عملية لحياة متوازنة وذات معنى، حياة نعيشها بوعي وراحة ونترك فيها أثرًا صادقًا لا يزول، في زمن التشابه والتناسخ من يمتلك أصالته ومبادئه يكون حقًا من بين القلائل الذين يعرفون المجد الحقيقي.

الأكثر قراءة

z