الخيانة.. بيع بلا رجعة

 

 

 

محمد بن رامس الرواس

 

حين نتناول قضية خيانة الوطن لا نتعامل مع حادثة عابرة أو ذنبٍ فرديٍ تقليدي؛ بل نحن أمام أزمة نفسية- عقلية مُركَّبة، تستوجب التحليل والتدقيق؛ فالخيانة ليست مجرد تخلٍ عن الواجب؛ بل هي تعبيرٌ صارخٌ عن قُصورٍ في الإدراك، وشللٍ في الإرادة، ووهنٍ في بناء الشخصية الإنسانية ذاتها.

إنَّ الوطن ليس مفهومًا عاطفيًا فضفاضًا يمكن التخلي عنه متى ما شئنا والرجوع إليه متى ما شئنا، إن الوطن هو الحاضنة الوجودية للفرد، وهو الصورة المُكثفة للتجربة الإنسانية المشتركة، فمن يخُن وطنه، هو بالتالي يَخُون قوانين بقائه، ويُفسد منطق حياته، ويُعلن ضمنًا أنَّه غير جدير بالوجود ككائن حُر.

يعتقد الخائن أنَّه بماله أو سلطته والقوة التي وصلت إليه من الأعداء أو من خونة مثله قد ارتقى، والحقيقة أنه انزلق إلى أدنى درجات التجريد؛ فهو من حيث يدري أو لا يدري قد ألغى نفسه من الوجود الجماعي، وأصبح عددًا بلا جذر، وحالةً بلا أصالة،  فالقيمة الحقيقية للفرد (كما يقول المنطق) تتجلى في مدى ارتباطه بما هو أكبر وأبقى منه، وحين يقطع الخائن هذا الرابط، يصبح كيانًا مُعلقًا لا معنى له، حتى لو امتلك كل ما يشتهيه من أسباب وجود المال والقوة، ومن أجل أن نقترب أكثر مما ذكرناه تعالوا سويًا لنطلع على ما حدث مع أبي رغال (المدعو ياسر أبو شباب) في غزة العزة.

في أزقة غزة؛ حيث كان المنطق أقوى من اليأس، نشأ "أبو رغال"، لم يكن رجلًا عاطفيًا؛ بل كان رجلًا عمليًا إلى حد البذاءة. كان يستحل كل شيء على أساس المكسب والخسارة. وفي أوقات الشدة القصوى، وجد أن المعادلة الوطنية "تضحية بلا مُقابل فوري" هي مُعادلة خاسرة وغير منطقية في رأيه.

أبو رغال لم يخُن بسبب ضعف شعوري؛ بل بسبب خطأ في حساباته العقلية. فقد رأى في الظروف القاسية فرصة تجارية؛ فرصة لبيع معلوماته الدقيقة عن التكوين الاجتماعي والجغرافي للحارة، في مُقابل ضمان البقاء الشخصي والمال السهل. كان يظن أنه بذلك قد تفوق على المنطق العام الذي يرى في المقاومة الخسارة الحتمية.

نجح أبو رغال في صفقته مع العدو؛ امتلك المال وبدأ يُحسّن وضعه، لكنه لم يترك غزة؛ بل أقام في بيت جديد معزول مع أعوانه، وحين جلس مع نفسه في يوم الأيام مُحللًا نتائج ما يقوم به من خيانة لوطنه، بدأ العقاب الحقيقي النفسي يتحرك بداخله لأنه في النهاية إنسان ذو شعور ومشاعر، حاول أبو رغال أن يشتري الأمن حوله، فلم يجده، ولو حاول أن يشتري الاحترام، فسيجد الاحتقار الصامت يتسلل إليه من نظرات الناس، لقد اكتشف أنَّ العملة الحقيقية في غزة هي الشرف، لا النقود. المال الذي يملكه أصبح عبئًا منطقيًا؛ لا يستطيع إخراجه ولا الاستمتاع به دون إدانة فورية.

لقد أصبح أبو رغال مُجردًا من سياقه الإنساني كله، كان يجلس ساعات طويلة يفكر في كيفية تصحيح المعادلة الخاطئة، وكيف يُعيد دمج نفسه في النسيج الاجتماعي، لكنه كان يُدرك باستمرار أن البيع الأول لا رجعة فيه.

في نهاية الأمر، لم يجد أبو رغال حلًا منطقيًا لوضعه، فقد رأى أن الحياة مع ثروته هي التعذيب الأقصى للعقل الذي فشل في تحقيق البقاء الكريم.

ولعلنا نمضي في تصوُّرِ مشهدٍ خياليٍّ؛ وكأنه في ليلةٍ ظلماء، وُجد أبو رغال ميتًا في غرفة نومه، لم يكن سبب موته طعنًا أو قتلًا؛ بل سكته قلبية جاءته وهو يُحاول أن يكتب رسالة أو تحليل أخير. وجدوا قلمه بيده، وعلى الورقة أمامه كانت الكلمات الوحيدة المكتوبة هي "إنه، وفقًا لكل حساب، لا يمكن للنفس أن تتعايش مع بطلان حقيقتها، وأن البقاء بالعار هو زوالٌ مُعجَّلٌ، وأن الخسارة العظمى ليست في فوات الدنيا؛ بل في فوات المبدأ الذي تَبْني عليه الحياة معناها".

مات أبو رغال بفشل في المنطق، لا بفشل في القلب، وبقي عمله شاهدًا على أن الخيانة هي أسوأ أنواع التجارة التي تضمن الإفلاس الوجودي لصاحبها.

 

الأكثر قراءة

z