خالد بن حمد الرواحي
في مؤسساتنا الحكومية نرى كل يوم مواقف بسيطة تكشف حقيقة أعمق مما تبدو عليه: النجاح في الوظيفة لا يصنعه حفظ اللوائح، ولا يتحقق بمجرد إتقان البرامج والأنظمة. فالنجاح الحقيقي يبدأ من قدرة الموظف على التواصل مع الآخرين، وشرح المعلومة بطريقة واضحة، وبناء علاقة عمل يسودها الاحترام والثقة.
ومنذ الأيام الأولى في الميدان، يكتشف الموظف أنَّ كثيرًا من المواقف لا تحتكم للكتب ولا للتعليم النظري؛ بل تحتاج إلى مهارات إنسانية لا تُدرّس في القاعات الجامعية، وإنما تُصقل بالممارسة والتجربة والتفاعل اليومي مع الناس.
ورغم أن الجامعات تخرّج كل عام آلاف المتخصصين، إلا أن معظم مناهجها تبقى منصبّة على الجانب الأكاديمي أكثر من المهارات العملية التي يواجهها الموظف في الميدان. فالطالب قد يبرع في تخصصه، لكنه عندما يقف أمام جمهور أو يدخل اجتماعًا رسميًا، يكتشف أنه بحاجة إلى لغة أكثر سلاسة، وإلى قدرة حقيقية على الإصغاء، وإلى مهارة في إدارة الحوار بثقة. ومن هنا تبدأ أولى الفجوات بين معرفةٍ تُبنى داخل القاعات، ووظيفةٍ تتعامل يوميًا مع الناس وتحتاج إلى أدوات مختلفة تمامًا.
ويتسع أثر هذه الفجوة في تفاصيل العمل اليومي؛ فمشروع قد يتعثر بسبب ضعف التفاوض، ومعلومة بسيطة قد تُفهم على نحو خاطئ لأن الرسالة لم تُصغ بدقة، وفكرة واعدة قد تختفي لأنها لم تُعرض بثقة. وعندها يتضح أن غياب المهارات الناعمة لا يقتصر على أداء الموظف نفسه؛ بل يمتد إلى المؤسسة بأكملها، ويترك أثره على صورتها وجودة خدماتها وقدرتها على التواصل مع المجتمع.
وتبرز المشكلة بشكل أوضح عند المقارنة بين ما يقدمه التعليم وما يفرضه واقع العمل؛ فالتخصص الأكاديمي يزوّد الطالب بأساسيات لا غنى عنها، لكنه لا يكفي وحده لإعداد موظف قادر على التعامل مع التعقيد الإنساني في بيئات العمل الحكومية. فالتواصل، وإدارة الوقت، والعمل ضمن فرق متنوعة، والتعامل مع المواقف الصعبة؛ كلها مهارات لا يمتحن فيها الطالب، لكنها هي التي تُحدد في النهاية قدرته على النجاح والتأثير في موقعه.
ومع تغيّر طبيعة العمل الحكومي، لم تعد المهارات الناعمة عنصرًا ثانويًا؛ بل أصبحت جزءًا أصيلًا من وظيفة الموظف. فقد تحولت المؤسسات اليوم إلى بيئات تفاعلية تتطلب التعاون بين الفرق، وصنع القرار المشترك، وإقناع أطراف متعددة، والتواصل الذكي مع المجتمع. ومن دون امتلاك هذه المهارات، يصبح من الصعب تقديم خدمة حكومية تتسم بالكفاءة والوضوح، وتراعي وقت المستفيد واحتياجاته وتوقعاته.
وهنا تبرز مسؤولية المؤسسة الحكومية، لا الموظف وحده؛ فالمؤسسة التي توفّر تدريبًا عمليًا حقيقيًا- في العرض والإلقاء، وفي التعامل مع الجمهور، وفي كتابة الرسائل المهنية، وفي إدارة الاجتماعات- تصنع موظفًا أكثر ثقة وقدرة، وتقلل من الأخطاء التي يسببها ضعف التواصل، وتُسهم في بناء بيئة عمل أكثر انسجامًا وإنتاجًا. فحين تُعطى هذه المهارات حقّها من التدريب، تتحسن الخدمات، وتزداد كفاءة المؤسسة، ويشعر الموظف أنه قادر على مواجهة مواقف العمل بثبات ووعي.
وهذا التوجه ينسجم تمامًا مع رؤية «عُمان 2040» التي وضعت تطوير الإنسان في قلب عملية البناء الوطني. فالرؤية تدرك أن تحديث المؤسسات لا يتحقق بالأنظمة وحدها؛ بل بوجود موظف قادر على التواصل الفعّال، وعلى فهم احتياجات المجتمع، وعلى التعامل مع تحديات العمل بروح إيجابية وشراكة واعية. ومن هذا المنطلق، يصبح الاستثمار في المهارات الناعمة خطوة محورية لتعزيز جاهزية الجهاز الحكومي للمستقبل، وضمان أن تكون الخدمة العامة أكثر قربًا من الناس وأكثر قدرة على الاستجابة لتغيرات الواقع.
وفي النهاية، إنَّ الموظف الحكومي لا يُقاس بما يحفظه فقط؛ بل بما يستطيع تحقيقه على أرض الواقع. فالمهارات الناعمة ليست ترفًا وظيفيًا؛ بل هي الجسر الذي يعبر من خلاله الموظف من المعرفة إلى التأثير، ومن الفكرة إلى التطبيق، ومن الدور الإداري إلى الدور الإنساني. ومع الاهتمام الجاد بتطوير هذه المهارات، نصنع بيئات عمل أكثر نضجًا، وخدمة حكومية أقرب للناس، وجيلًا قادرًا على مواجهة تحديات المستقبل بثقة وكفاءة.
