رحيلك أوجع القلوب يا حبيب الملايين

 

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي ** 

 

رحل عن دنيانا رجل ارتبط اسمه بالكرم الحاتمي وأصبح مرادفًا له ومقترنًا بـ"سهيل بهوان" في زمن الأنانية وحب الذات وقلة الذين يجودون بمالهم على الفقراء والمحتاجين؛ بل وحتى في إخراج حق الله من الزكاة لمستحقيها، فعلى الرغم من ذلك فقد تضاعفت أموال هذا التاجر النبيل، فقد وصفته مجلة فوربس الشهيرة بأنه ضمن أغنى 10 أثرياء في الوطن العربي بثروة قدرت بـ2.5 مليار دولار أمريكي وذلك قبل عدة سنوات، وبالفعل ما نقص مال من صدقة، أو كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مالٌ من صدقةٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا". 

لقد عمَّ الحزن وخيَّم على الجميع لهذا الفقد المؤلم الذي أوجع القلوب وأدمى العيون على هذا المصاب الجلل؛ فعُمان من أقصاها إلى أقصاها تتذكر مكارم وعطايا هذه الأسرة الكريمة التي سطع نجمها مبكرًا باشتغالها بالتجارة منذ منتصف الستينيات القرن الماضي، حيث كانت البداية في مدينة صور مسقط الرأس للشقيقين (سهيل وسعود بهوان)، ثم الانتقال إلى مدينة مطرح التي كانت في ذلك الوقت من أهم المراكز التجارية في البلاد. فمن تجارة الأخشاب والمواد الغذائية المتواضعة إلى تجارة مزهرة تمثلت ببيع السيارات اليابانية والإلكترونيات والعقارات والسفر والسياحة، بل وكل أنواع التجارة في كنف النهضة العُمانية في القرن الماضي. 

هناك روايات كثيرة تُحكى عن كرم هذا الرجل وعطفه على الفقراء، فقد قال لي شخص متقاعد من العمل ويعيل أسرة كبيرة ووجد نفسه غير قادر على تلبية احتياجات أولاده ومتطلبات الحياة الصعبة، إنه تذكر الشيخ بهوان وشد رحاله من ولاية إزكي في محافظة الداخلية إلى مكتب الشيخ سهيل يرحمه الله في روي حيث مكتب الشركة، فوجد أعدادًا كثيرة من الناس أصحاب الحاجة منتظرين أمام مكتب الشركة مثل كل أيام الأسبوع، حيث يتم توزيع الصدقات عليهم. ويقول راوي القصة إنه فضَّل مقابلة الشيخ سهيل على انفراد، وبالتالي اختار وقت الضحى بلا موعد، فاتجه في اليوم التالي إلى مسجد أبي بكر الصديق في الوطية، فإذا بشيخ وحيد في المسجد يتعبد، فانتظره بعد أن انتهى من صلاة الضحى لعله أن يكون هو (سهيل)، وبالفعل ناداه الشيخ وطلب منه حسابه البنكي، فيقول: في كل عيد يبعث لي مبلغًا ماليًا. إنها بالفعل واحدة من روائع بهوان في الكرم ومساعدة الفقراء. 

لقد أتيحت لي فرصة نادرة للقاء هذا الشيخ الجليل؛ وذلك خلال زيارته لجامعة السلطان قابوس لافتتاح اليوم المفتوح بين قسم السياحة في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية وسفريات بهوان، فقد كنا في انتظاره لمقابلة هذه القامة الكبيرة أنا والدكتور عصام الرواس عميدنا في ذلك الوقت، فإذا ينزل من السيارة رجل في منتهى البساطة في اللباس والخطوات، يتأمل في من حوله وهو أغنى البشر، والأهم من ذلك كله حديثه الذي لم أسمع أروع منه خلال الجلسة التي جمعتنا به في مكتب العميد. إنه شخص أتى من عالم آخر بأخلاقه الفريدة وتواضعه المنقطع النظير وحبه للناس ولعُمان، ولا يوحي لك بأي حال من الأحوال بأنه من أصحاب المليارات. 

لا شك أن الكل يفرح بالذين لا يجمعون الثروات الطائلة لأنفسهم وأولادهم فقط، بل يتقاسمونها مع المحتاجين من أبناء المجتمع بسخاء وحب وكرم حاتمي، لهذا السبب كسبوا القلوب وكأن أموالهم للجميع.

هكذا هم العظماء لا يموتون؛ بل تُخلَّد أعمالهم عبر الأجيال وتسبقهم الصدقات والعطايا إلى عالم الخلد. وعند الحديث عن شخصية وازنة بحجم الشيخ سهيل بن سالم بهوان الذي هز نبأ وفاته السلطنة من جنوبها إلى شمالها، لم يكن ذلك مجاملة لرجل أعمال يمتلك ثروة كبيرة وما أكثرهم؛ بل لأنه له رصيد في مساعدة الآخرين من المساكين. فلم تكن العطايا السخية لبهوان للمحتاجين فقط؛ بل شملت تشييد المباني لإيواء المساكين وفك أسر المديونين وبناء وتأثيث المساجد وعلاج المرضى خارج السلطنة وكذلك الإنفاق على التعليم وبناء المستشفيات. 

لا يمكن في هذا الموقف الحديث عن مساعدة المحتاجين وفك كربة المعسرين دون الإشارة إلى واحد من رموز الكرم والسخاء في سماء السلطنة، الذي كانت في أيامه الذهبية تغطي مظلته الجميع ناشرة الخير والرخاء والاستقرار بين أفراد المجتمع، إنه سعود بن سالم بهوان- طيب الله ثراه- الشقيق الأصغر للشيخ سهيل، فقد حمل هذا الرجل العظيم راية العمل الخيري في البلاد بلا منازع، فكان عطاء المرحوم بلا حدود، خاصة في محاربة الفقر، فقد شمل العطاء البدو والحضر في الولايات والصحاري العُمانية. كم هو جميل أن نحلم اليوم بوجود أشخاص آخرين مثل سهيل وسعود بهوان من بين عشرات التجار الذين تُقدَّر ثرواتهم بمئات الملايين من الريالات.

وفي الختام، الصدقة هي أجمل وأنبل المواقف التي يُسطِّرها أصحاب الهِمَم العالية والنفوس الزكية. فكم هم كرماء هؤلاء الناس من حولنا الذين أنفقوا من أموالهم في سبيل الله لإنقاذ غيرهم ممن ينتظر الفرج. إنه الكرم الحاتمي بما تحمله هذه الكلمة من معنى.

طوبى للأخوين سهيل وسعود بهوان على أعمالهم الجليلة وإنفاقهم من أموالهم على هذا الشعب الذي لا يمكن أن ينسى لهم ما قدموه من معروف عبر العقود للمستحقين في مختلف المجالات التي طالت كل أوجه الحياة في هذا البلد العزيز، ونتضرع إلى الله أن يرحمهما ويتغمدهما برحمته في جنة الفردوس الأعلى.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة

z