سُلطان بن خلفان اليحيائي
لم يعد المشهد بحاجةٍ إلى كثيرِ ذكاءٍ لندرك أنَّ ما يُرفَع من شعاراتٍ حول دولةِ قانونٍ ومؤسّسات لا يختلف كثيرًا عن الشعارات التي يرفعها مجلسُ “الأمن” الدولي؛ ذاك المجلس الذي يُفترض أن يكون حارسًا للسلم العالمي، فإذا به يتحوّل إلى مجلسِ ظُلمٍ أمميّ تُدار فيه مصائر الشعوب برفعةِ يدٍ واحدة، تسقط بها صوت العدالة بكلمة واحدة - ما أنزلَ الله بها سُلطان - وهي الفيتو.
ما حدث قبل أيام في المجلس لم يكن قرارًا دوليًا بقدر ما كان فضحًا دوليًا؛ إذ صوّت الغربُ على مشروعٍ أمريكي لتدويل نزع سلاح المقاومة الفلسطينية في غزّة، تمهيدًا لوضعها تحت وصايةٍ “صهيو-أمريكية” كاملة. ثلاث دول محسوبة على العروبة والإسلام رفعت أيديها مؤيّدة للقرار، فصارت دماءُ غزّة “شأنًا إداريًا”، وتبعهم آخرون عن بُعد. ولئن جاء التصويت عبر الأثير، فالطلاق يقع ولو سُمِع الصوت من خلف الجدار!
غزّة.. كاشفةٌ لا مختبِئة
ما جرى في مجلس الأمن كشف هشاشة النظام العالمي، وكشف أيضًا هشاشة كثير من الأنظمة العربية والإسلامية؛ تلك التي ترفع شعار “السيادة” بينما تُدار سياساتها بعامل الخوف، ومقياس الولاء، وحسابات الرضا الدولي.
غزّة لم تطلب سوى أن تعيش حرة، وأن تدافع عن نفسها، وأن تبقى على أرضها. وحين وقف العالمُ كله ضدّها، بقي فيها شعب يعرف أن الكرامة لا تُستورد، وأن الحرية لا تُمنح.. بل تُنتزع.
﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
رمانةُ الميزان.. واقعُ المؤسّسات بين المظهر والمضمون
حين تقول الأنظمة العربية: نحن دولةُ قانونٍ ومؤسّسات، فإنّ أول ما يفهمه المواطن هو وجود قضاءٍ مستقل، ومحكمةٍ دستورية تُراقب المشروعية ولا تسمح بالتجاوز، ومجلسٍ تشريعي قادر على كبح أيّ ميل نحو التفرد بالسلطة.
لكنّ الواقع يكشف شيئًا آخر؛ إذ تتحوّل بعض هذه المؤسسات إلى واجهاتٍ شكلية، لا تُغيّر ولا تُبدّل، ولا تملك من القرار إلا ما يُمنح لها. وكأنها نسخةٌ مصغّرة من مجلس الأمن نفسه، حيث يُدار المشهد من وراء الستار ويُترك الباقون لتطبيق ما يُملى عليهم.
المجالس النيابية والاستشارية تُقدَّم أحيانًا كأنها “الفيصل” بين المواطن والدولة، بينما هي في الحقيقة عاجزة عن إسقاط تشريع مُضر، أو منع تجاوز، أو مساءلة مسؤول كبير. فإذا لم تكن قادرة على أداء هذه الوظائف، فوجودها يصبح أقرب إلى الديكور المؤسّسي منه إلى الرقابة الفعلية.
المواطن العربي.. لا يطلب المستحيل
المواطن العربي لا يريد خزائن الدولة ولا مقاعد القرار، ولا يطمع في تغيير خرائط النفوذ. كل ما يطلبه عدالةٌ اجتماعية تحفظ ماء وجهه، وكرامةٌ لا تُهان، وحقّه في أن يشعر بأنّ مؤسسات دولته وُجدت لأجله لا عليه.
إنه مواطن صابر على ضرائب مُضنية تُرهق كاهله وتستنزف قدرته على الحياة الكريمة، ورغم ذلك يبقى وفيًّا لوطنه، ثابتًا على الأرض كالطود الشامخ، رافضًا أن يمسّ أمن بلده أو تُهدَّد مقدّراته. ومن حق هذا المواطن أن تُقدَّر تضحيته، وأن يُسمع صوته، وألا يُعامل كأنه مصابٌ بوباءٍ معدٍ، فيظل معزولًا عن دائرة المشاركة الوطنية ومعادلة الحكمة.
إنّ ما نراه اليوم ليس خلافًا على لوائح أو صلاحيات، بل امتحانٌ لجوهر الدولة: هل هي دولةُ قانونٍ ومؤسّساتٍ فعلًا، أم مجرّد لافتة تُعلَّق عند الحاجة؟ هنا تُختبر رمانةُ الميزان؛ فإمّا عدلٌ يطمئن إليه المواطن، وإمّا وصاية تُفرض عليه باسم “النظام”.
الشعوب لا تطلب الكثير: ميزانًا مستقيمًا، وصوتًا لا يُقصى، وعدالةً اجتماعية لا تُهدَر، ومؤسّساتٍ تحمي الحق ولا تُهدر حقوقه. المواطن العربي الحرّ، الذي عايش الضيم ومرارة الخذلان لسنوات، ورأى إبادة جماعية لأبناء جلدته، يعرف أن العدالة الدولية قد تخذله، وأن الأصوات العالمية قد تتحد لقمع أي قرار يعيد له حقوقه. لذلك تصبح الدولة والمؤسسات الحقيقية ملاذه الأخير: تضمّد جراحه، وتعيد ثقته، وتحمي حقوقه المشروعة. وعندما تُطبَّق العدالة بصدق، يستقيم ميزان القانون، وتصير الشعارات صادقة، والحقوق محفوظة، والكرامة مصانة.
وما لم تُراجع الأنظمة مرآتها المكسورة في الخارج، وتُزيل غبار الشعارات في الداخل، فلن يقوم ميزان، ولن تستقيم دولةٌ تُسمّي نفسها “قانونًا” وهي أول من يتجاوزه.
ويبقى التوجيه الإلهي، ما بقيت السماوات والأرض: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 9).
