علي الرئيسي **
بالنسبة لبرانكو ميلانوفيتش الخبير الاقتصادي الأمريكي من أصول صربية، وكثيرين غيره، تُعدّ الصين محور التحول الأيديولوجي الحالي، كما إن صعود الصين الذي مكّنته النيوليبرالية العالمية، جعل نهاية النيوليبرالية العالمية حتمية؛ إذ تضخم الاقتصاد الصيني لدرجة يصعب معها دمجه في نظام عالمي تُحدِّد قواعده الولايات المتحدة وحلفاؤها.
أما ناقوس الموت الثاني للنيوليبرالية فيتمثل في ظهور طبقة جديدة ثرية من النخب الغربية. وقد ولَّد هذان التغييران استياءً واسع النطاق في جميع أنحاء الغرب؛ مما أدى بدوره إلى تحول التيار السياسي السائد نحو اليمين. وقد انحسرت الأفكار التي عرّفت النيوليبرالية، من تحرير التجارة إلى حرية تنقل الأشخاص عبر الحدود، في ظل حروب التعريفات الجمركية الترامبية الحالية وسياسة مكافحة الهجرة واسعة النطاق.
في كتابه "التحول العالمي الكبير.. ليبرالية السوق الوطنية في عالم تعدد الأقطاب"، يُخصِّص ميلانوفيتش الفصل الأول من فصول الكتاب الخمسة للنهضة الاقتصادية لآسيا؛ باعتبارها الحدث الرئيسي خلال المئة عام الماضية. ومثلما ناقش في كتابه "التفاوت العالمي" الصادر عام 2016، فقد أعاد نهضة آسيا إلى توزيع الدخل؛ مما أدى إلى نشوء طبقة متوسطة عالمية (وإن كانت أفقر مما يُسمى بالطبقة المتوسطة في الغرب)، تُشكّل 11% من سكان العالم، بدخل فردي يتراوح بين 2600 و3900 دولار أمريكي شهريًا.
وبفضل نموها الاقتصادي طويل الأمد، لم تعد الصين تُسهم في تراجع التفاوت العالمي، كما يُخبرنا ميلانوفيتش، لكن الأمر لا يقتصر على الصين؛ حيث إن حصة فيتنام وإندونيسيا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ترتفع أيضًا بالتزامن مع انخفاض حصة مستعمريهما السابقيْن (فرنسا وهولندا)، ويصل الناتج المحلي الإجمالي للهند إلى أربعة أضعاف نظيره البريطاني. هذه الدول في الوقت الحالي عند "ذروة دخلها النسبي"؛ حيث بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ذروته، مُعبّرًا عنه كنسبة مئوية من المتوسط العالمي. وقد بلغت الدول الغربية هذه الذروة قبل حوالي 60 عامًا.
هذا هو سياق التغيير في السياسة الأمريكية تجاه الصين، من تشديد الرقابة على تصدير التكنولوجيا الحساسة إلى فرض عقوبات على الشركات الصينية. وتؤثر هذه السياسات سلبًا على معدلات النمو لكل من الصين والولايات المتحدة، ولكن إذا أثرت هذه السياسات بشكل أكبر على معدل النمو الصيني، فإنها ستؤخر فعليًا معدل "اللحاق" الصيني. يكتب ميلانوفيتش أن هذا هو الأساس المنطقي للسياسات الأمريكية المناهضة للعولمة: إبطاء النمو الصيني، وتوسيع هيمنتها الاقتصادية. وتكشف مقارنة الدول الآسيوية الكبيرة (الهند وإندونيسيا وفيتنام وتايلاند وباكستان) مع دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، عن نتائج مماثلة، على الرغم من أن الفجوة الحالية بين متوسط الدخل بين هاتين المجموعتين أكبر بكثير (أكثر من 10 إلى 1) من الفجوة بين الولايات المتحدة والصين (4.6 إلى 1).
عير أن احتمالات العثور على مواطن صيني في أعلى شريحة من توزيع الدخل العالمي تتزايد؛ فإذا ظلت فجوة النمو حوالي 3 في المائة سنويًا لصالح الصين، فقد تصبح بعد 20 عامًا مساوية لاحتمالات العثور على مواطن أمريكي في نفس المجموعة.
40 عامًا من الرأسمالية غير المُنظَّمة خلقت طبقات حاكمة جديدة في أمريكا والصين؛ حيث عدد متزايد من الناس الذين يتمتعون بثراء من دخل العمل ودخل رأس المال على حد سواء. ويُطلق ميلانوفيتش على هذه الظاهرة اسم "هوموبلوتيا"، أي الثراء المتساوي (هومو) في عاملين رئيسيين من عوامل الإنتاج. وبعد تحليله الجزئي لهذه المجموعة في كتابه "الرأسمالية وحدها" (2019)، يُوضح ميلانوفيتش الآن الخصائص الرئيسية لهذه الطبقة الجديدة. ويقع أفرادها في الشريحة العشرية العُليا في مجتمعاتهم من حيث دخل العمل ورأس المال وإجمالي الدخل.
في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول ذات الدخل المرتفع، تُمثل هذه الطبقة حوالي 3% من السكان، بينما في الصين، تُشكل أغنى 5% من سكان المدن. في أمريكا، كان ارتفاع دخل الوالدين (الذي غالبًا ما يُورَّث، مما يزيد من فرص الترقي الاجتماعي) ومزيج التعليم الجيد والحظ والعمل الجاد والراتب المرتفع الذي يُتيح ادخارًا كبيرًا. أما في الصين، فتتمثل الميزة الأكبر في عضوية الحزب الشيوعي الصيني.
التحول الرئيسي الذي يحدده ميلانوفيتش هو أن هذه النخبة الجديدة ليست معارضة للرأسماليين؛ بل متحالفة معهم. ويصف 3 سمات لهذه الطبقة: البُعد الاجتماعي، كما يتضح من الاندماج مع الرأسماليين؛ والبُعد الاقتصادي، كما يتضح من البيانات المتعلقة بتزايد انتماؤها إلى "هوموبلوتيا"؛ والبُعد الأيديولوجي، كما يتضح من القبول الصادق لأهمية الملكية الخاصة. وتعني هذه السمة الأخيرة أن الطبقة العليا أصبحت الآن أكثر نخبوية، لأن ارتفاع الدخول يرتبط بـ"المؤهلات": المستوى التعليمي في الولايات المتحدة، والعضوية الحزبية في الصين.
ومع تزايد اعتماد الناس على العمل ورأس المال كمصدر دخل مرتفع، فإن الطبقة الرأسمالية التقليدية محكوم عليها بالانقراض. ويشير ميلانوفيتش إلى أن هذا التطور الجديد، على الأقل بالنسبة للنخبة الرأسماليّة (هوموبولتيك)، قد حلّ الصراع الدائم بين رأس المال والعمل، ويتوقع توسّعًا أكبر لهذه الطبقة في المستقبل.
وبعد أن بلغت النيوليبرالية ذروتها حوالي عام 2002 عندما انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وجهت لها الأزمة المالية عام 2008 ضربة قاضية. وقد مثّلت فترة انتقالية شهدت اضطرابات سياسية وأزمات ديون وهجرة واحتجاجات شعبية، إلى أن جاء حدثان رئيسيان في عام 2016 ليُبشِّرَا بمرحلة جديدة: الولاية الرئاسية الأولى لدونالد ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك الحين، تزايد الوعي بأن النيوليبرالية لم تُنشئ فقط طبقة جديدة من الأثرياء الجدد ماليًا، وبالتالي فاقمت التفاوت في الدخل؛ بل إنها أدت أيضًا إلى نتائج اجتماعية وخيمة، مثل انخفاض الحراك الاجتماعي، وارتفاع معدلات الوفيات والأمراض بين الفقراء والطبقة المتوسطة، وانخفاض النمو الاقتصادي، وانعدام الاستقرار الوظيفي.
في الغرب، كان رد الفعل على هذا الاضطراب صعود الشعبوية؛ وفي الصين، تقوية الحزب الشيوعي؛ وفي روسيا، تقوية الأجهزة الأمنية. جميع هذه الدول الثلاث تنوي التصدِّي لتراكم سُلطة النخبة. وهذا أمرٌ مثيرٌ للسخرية؛ لأن ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين هم أنفسهم نتاجٌ للنيوليبرالية؛ جميعهم وصلوا إلى السلطة بفضل الميراث وريادة الأعمال (ترامب)، والنفوذ الأبوي في الحزب (شي)، والسيطرة على الأوليغارشية (بوتين). بعبارة أخرى، بفضل تراكم الثروة والسلطة!
لكن.. كما يكتب ميلانوفيتش في فصله الرابع، فإنَّ "ليبرالية السوق الوطنية" تشمل جوانب من الفكر الكلاسيكي والنيوليبرالي المُتعلِّق بالأسواق، لكنها ترفض جوانب أخرى من المشروع الليبرالي تتضمن المساواة المدنية. وبينما تستبعد التعددية الثقافية، والعولمة، وحرية تنقل العمالة، فإنها تُبقي على إلغاء القيود، وانخفاض الضرائب، ونهج "رجل الأعمال" الشامل في الاقتصاد. ما يعني أن الرأسمالية تزداد رأسماليةً يومًا بعد يوم.
قد يُنظر إلى العديد من الافتراضات الأساسية للكتاب على أنها غير دقيقة أو خاطئة، مثل أن الليبرالية الجديدة اعتمدت على مبدأ التجارة الحرة (وهو ما لم يكن صحيحًا)، أو أن الاقتصاد، خلال فترة الليبرالية الجديدة، كان معزولًا عن السياسة (بل كان في الواقع معزولًا عن الديمقراطية). وتنطلق هذه الافتراضات من الفرضيات الأنطولوجية (الوجودية) المحددة في الكتاب حول الطبيعة البشرية والرأسمالية، وكذلك إيمان المؤلف بالحتمية التاريخية. ومن هنا جاء توقعه- غير المتفائل كثيرًا- أن ليبرالية السوق الوطنية ستستمر.
مع ذلك، يُعدُّ الكتاب دراسةً جديرةً بالاهتمام؛ فتحليل ميلانوفيتش مُثريٌّ برؤىً ثاقبةٍ من التاريخ وعلم الاجتماع، لا سيما من مؤلفين كلاسيكيين مثل لينين، وروزا لوكسمبورغ، وكارل بولاني، وبالنسبة للاقتصاديين كذلك مثل جوزيف شومبيتر الذي لا غنى عنه. وبغض النظر عن الفرضيات التي ينطلق منها، فإن الكتاب يستند إلى عملٍ دؤوب على البيانات التجريبية، ويُقدّم تحليلًا اجتماعيًا واقتصاديًا قويًا عن النخبة الصينية والغربية، ومن أبرزها مقترحاته لما يُسمى بالهجرة الدائرية (التي تسمح للأجانب بالانتقال مؤقتًا) لحل "الثالوث المستحيل" المتمثل في: العولمة، وارتفاع التفاوت في الدخل، وغياب الهجرة الهيكلية، ومفهوم "التجانس". وكلاهما (الثالوث المستحيل والتجانس) أدوات تحليلية أصيلة ومفيدة يُمكن لعلماء الاجتماع استخدامها لفهم تحولات الرأسمالية.
** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية
