علي بن مسعود المعشني
يُمثل العراق عبر تاريخه القديم والأوسط والحديث حالة استثنائية خاصة للوطن العربي، فكل حدث بالعراق أو منه غالبًا ما تكون له ارتدادات إقليمية كبيرة، وبالنتيجة الطبيعية أثر دولي كذلك؛ حيث كان العراق حيويًا وفاعلًا وحاضرًا ومُؤثرًا على طريقته الخاصة في كل حدث وموقف وقضية عربية مفصلية.
ويعود هذا الحضور الواعي والمؤثر للعراق- في تقديري- إلى منسوب مناعته الطبيعية، وحساسيته المُفرطة تجاه ما يمس ثوابته وثوابت أمته العربية. لهذا نجد العراق العظيم ينتفض بعد كل كبوة ليعود صلبًا فاعلًا وسندًا قويًا لقضايا الأمة في المحن والملاحم الكُبرى.
لم يكن العراق حاضنًا وفيًا لحضارة أمته العربية وتاريخها فحسب؛ بل كان كذلك أنموذجًا تاريخيًا جليًا لعالم مصغر يضم في جنابته وحواسه ومجساته عوالم شكلت العراق العظيم بهويته الجامعة من فسيفساء هوياته ومكوناته كزخرف بهيج.
في كل حدث جلل عبر تاريخ الأمة يُرتقب الجديد من العراق، هذا الجديد الذي سيقول كلمته الفصل، ويستنطق ما استعصى على الفهم، ويضعه على مشرحة الوعي بجلاء ووضوح. الشواهد على تاريخ العراق وحضوره لا يحتاج إلى شرح وتذكير؛ فقراءة اليوم في نتائج الانتخابات البرلمانية بالعراق تعود بنا إلى سلسلة من مفاصل تاريخ العراق حين يلف الظلام الحالك واقع الأمة وتهجُر العرب الحديث عن المستقل وتؤجله إلى حين.
نتائج الانتخابات تضع خيارات العراق الوطنية في الصدارة مجددًا، رغم جميع الظروف والمخططات التي حيكت لتمرير برامج ومشروعات غريبة يستنكرها العراق العظيم ويستهجنها أبناؤه الأوفياء البررة لثوابتهم؛ فالعراقيون كانوا عبر التاريخ رهن إشارة أمتهم، ورصيدها ومُعينها في كل محنة تعصف بها.
فوز الطيف الوطني في العراق اليوم يحمل رسالة جلية عن مدى حضور فلسطين وبقوة في وجدان العراق والعراقيين، كما يحمل رفض العراق والعراقيين لكل ظلم وضيم يقع على الأمة، كما يعني انتصار العراق والعراقيين لمحور المقاومة وخيارها، والمعنى الكبير والأكبر لهذا الفوز هو الانتصار لسوريا الجريحة التي أعتقد الخصوم والأعداء بأنها فريسة سهلة، وأنها ستصبح في عداد النكبات المنسية في تاريخ العرب الحديث. وبفوز الطيف الوطني العراقي يمكن الجزم بأن الوجه الآخر للمشهد العربي المقاوم قد أكتمل في موازاة المشهد الغربي الاحتلالي القاتم، كما يمكن القطع بأن الوضع الإقليمي والدولي سيكونان على صفيح ساخنًا جدًا وسيتناسل منهما خياران بنفس الحدية والقوة في التضاد والتناقض، أما حرب طاحنة لا تُبقي ولا تذر، أو سلام بلا حرب ترضخ له القوى الكبرى وتقبل مكرهة بجوائز ترضية كعادتها حين تواجه إرادات صلبة وأصحاب حق وأبناء حضارة.
إذا قال العراق فصدقوه
فإن الصدق ما قال العراق
قبل اللقاء.. يقول شيخ المؤرخين العرب الدكتور عبد العزيز الدوري في توصيفه لحال الأمة العربية عبر مراحل تاريخها: "الأمة العربية عصية في ضعفها، عصية في قوتها". (وربما أستلهم المؤرخ هذا التحليل وهذه الحقيقة من تاريخ وطنه الصغير العراق لتوصيف حالة وطنه الأكبر)؛ فتاريخ العراق العظيم نسخة مُصغرة من تاريخ أمته العظيمة.
وبالشكر تدوم النعم.
