د. حامد بن عبدالله البلوشي
تاريخُ الأمم لا يُكتب بالحروف فقط؛ بل تُسطّره عزائم رجالها، وسواعد شبابها، وإرادة قادتها، ووحدة شعوبها. وتُنسجُ صفحاتُ التاريخِ بآياتٍ من العزّ والشموخ، فتُشرق شمس أمةٍ كان لها من البصيرة ما أكسبها مكانةً بين الأمم، ومنزلة بين الدول. وعندما نتأمل تاريخ الدولة العُمانية الحديثة، نرى أنه ليس مجرد تعاقب عصور، وتوالي أزمان؛ بل هو مسيرة متصلة من البناء المجيد، والوحدة المترابطة، والحكمة البالغة، بدأت مع تأسيس دولة آل بوسعيد، واستمرت حتى اليوم، وتبقى بتوفيق الله ومعيته على مر الأزمان والعصور، في نهجٍ متوازن يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
والناظر إلى الجذور التاريخية لتأسيس دولة آل بوسعيد؛ يجد أنَّه في منتصف القرن الثامن عشر، وتحديدًا عام 1744م، برز الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي قائدًا حكيمًا في زمنٍ عصيبٍ، حيث عمَّ الاضطراب والانقسام. فلبّى نداء الوطن، وهبَّ بعزيمة لا تلين، فوحّد الصفوف، وطرد الفرس وأعاد لعُمان تماسكها بعد سنواتٍ من التقاتل والتشرذم.
لقد أسّس الإمام أحمد بن سعيد -بحنكة وشجاعة- دولةً قويةً متماسكة، تستند إلى العدل والشورى منهجًا ومرجعًا، فبنى سلطةً مركزيةً أعادت للوطن هيبته وعزته، وللمواطن انتماءه وتماسكه، وللأرض رسوخها وثباتها، فأضحت عُمان حصينة أمام عواصف الزمان، عصيَّة على التشرذم والانقسام.
ومن ذلك المنطلق، نشأت الدولة العُمانية الحديثة على أسسٍ من الوحدة والاستقرار، فصارت كيانًا راسخًا، وجسدًا متماسكًا، يوازن بين حماية الداخل والتمكين له اجتماعيا واقتصاديًّا، والانفتاح على العالم والتعاون الدولي المأمول، ويجعل من الأمن والازدهار وجهين لعملةٍ واحدةٍ تُجسّد معنى الدولة الراسخة، مما مهد لحقبة من الإنجازات، وحاضر يفخر به كل عُماني.
وقد تحقق الكثير من الإنجازات، والعديد من الأهداف، فلم يكن عهد آل بوسعيد زمنَ وحدة سياسية، ونهاية للصراعات فحسب؛ بل كان عصر إنجازٍ حضاريٍّ ترك بصمته في التاريخ الإقليمي والعالمي. ففي عهد السلطان سعيد بن سلطان (1856- 1806) بلغت الدولة البوسعيدية ذروة قوتها، فامتد نفوذها إلى سواحل شرق أفريقيا، وأبرمت الاتفاقيات الدبلوماسية والتجارية مع قوى كبرى كالولايات المتحدة وفرنسا.
وقد ازدهرت التجارة والملاحة، وتمايزت سلطنةُ عُمان بموقعها التجاري الإستراتيجي، فساعدت على تلاقي الثقافات، وصارت جسرًا بين الحضارات، وأصبحت ميناءً مهمًّا ترد إليه السفن من شتى الجهات، كما أُسِّس للبحرية العُمانية التي حرّرت الممرّات البحرية وأمنّت حركة التجارة، وكرّست دورَ وطنٍ يُحاورُ الحضارات ويبادلها، وأصبح للعُمانيين حضورٌ مهيبٌ في المحيط الهندي.
في قلب هذا التاريخ المديد، بزغ فجرٌ جديدٌ مع بزوغ عهد السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- الذي حمل على عاتقه مسؤولية بعث النهضة الحديثة من بين ركام التحديات. فقد أضاء بعقله المستنير دروب الوطن، وجعل من التعليم مشعلًا، ومن التنمية هدفًا، ومن الإنسان محورًا وغايةً. تحت رايته خرجت عُمان من العزلة إلى الانفتاح، ومن الجمود إلى الحركة، ومن التشتت إلى الوحدة. وفي عهده تحققت البنية الأساسية الحديثة، ونهضت المؤسسات، وأُرسي مبدأ الدولة العصرية القائمة على القانون والمواطنة والمساواة، مع الحفاظ على الهوية والتراث. لقد جمع- رحمه الله- بين حكمة الأجداد ورؤية المستقبل، فغدت عُمان في عهده واحةً للسلام والاستقرار، ومثالًا يُحتذى في التعايش والوئام، حتى غدت سيرته فصلًا خالدًا في سجلّ المجد العُماني.
واستنادًا إلى ذلك الماضي العريق، والحاضر المزدهر المتصل بالماضي؛ يحتفل العُمانيون هذا العام باليوم الوطني، لا باعتباره مناسبةً رسمية فحسب؛ بل حدثًا وجدانيًّا يذكّرهم بجذورهم، ويجمعهم على محبة الوطن. في هذا اليوم تتزيّن الشوارع بأعلام الوطن العريق، وتتعانق ألوان الراية خفاقة في سماء البلاد، لتروي قصة شعبٍ عظيم، حمل الإخلاص في قلبه، والعلم في عقله، والعمل في يده، ورؤية المستقبل في بصيرته.
إنِّه يومٌ تتجدّد فيه قيم الولاء والوفاء، وتُستحضر فيه سيرة القادة والمؤسسين، فتتعمّق في النفوس معاني الانتماء والفخر. كما يُعدّ مناسبةً لترسيخ المبادئ التي قامت عليها الدولة العُمانية منذ نشأتها؛ من تسامح، ووسطية، ومواطنة صادقة، وانفتاح على الآخرين، مع الحفاظ على الأصالة. فهو يوم يربط الماضي المجيد بالحاضر المزدهر، ويستشرف المستقبل بثقةٍ راسخةٍ بأنّ الوطن أكبر من الزمان والمكان.
وها هو عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- يؤكد أن النهضة ليست حدثًا عابرًا، أو صفحة مطوية؛ بل مسيرة متواصلة من البناء والإصلاح. متجذّرة في نهج المؤسّسين من آل بوسعيد، مرورًا بالعظماء في تاريخ أمتنا، وصولاً إلى السلطان قابوس الخالد في نفوس شعبه، حاملًا مشعل التجديد، ولواء النهضة الحديثة، فواصلت القيادة الحديثة نهج أسلافها في الحكمة والاعتدال، واقتفت آثارهم في التعقل والوسطية، وحذت حذوهم في النهوض والتطور، وسلكت دروبهم في الرشد والاتزان، وجعلت الإنسان محور التنمية وغايتها.
وبهذا النهج المتزن، والمسيرة المتبصرة، والطريق القويم، تواصل عُمان حضورها الفاعل في العالم، مُسهمة في بناء السلام والأمن الإقليمي والدولي، ومتمسكةً بقيمها التي جعلت منها واحة استقرارٍ، ووجهة ثقةٍ، ومثالًا للحكمة.
إنّ الإرث الوطني ليس مجرّد ذكرى تُروى في المناسبات، أو تاريخ تحفظه الكتب والمدونات؛ بل هو جذورٌ حيةٌ تغذّي الحاضر، وتسقي أشجاره، وتُنبت ثمار المستقبل غضة شهية. ومن واجب كلّ جيل أن يحافظ على هذا الإرث، ويغذّيه بالعلم النافع، والعمل الصالح، والفكر المستنير. فحين يعرف الشاب تاريخ بلاده، ويدرك ما واجهته من تحدياتٍ، وتخطته من صعوبات وعقبات، وما أنجزته من مآثر ومفاخر، تشتدّ صلته بوطنه، ويتحوّل حبه له إلى سلوكٍ ومسؤولية.
ودعائم هذا الصرح المكين، والبناء الشامخ، ولبناته الأساسية هي التعليم الواعي، والثقافة الواسعة، واللغة الراقية، والتاريخ المشرف، من أجل ترسيخ الهوية الوطنية، وتحصينها من تيارات العولمة والتحولات الفكرية السريعة. فالهُوية ليست انغلاقًا؛ بل تفاعلٌ واعٍ مع العصر دون التفريط في الثوابت. وهكذا تبقى عُمان- في جوهرها- جسرًا حضاريًّا يربط بين الماضي والمستقبل، وبين القيم الأصيلة والرؤية المتقدمة.
وفي ظلّ النهضة المتجددة، تتجلّى ملامح المسؤولية المجتمعية كقيمةٍ وطنيةٍ راسخةٍ تربط المواطن المخلص بوطنه العزيز، وتُحوّل الولاء والحب إلى بذل وعملٍ، والانتماء والانتساب إلى جهد وإنجازٍ. وقد حمّلت قيادتنا الحكيمة الشباب أمانة الاستمرار، فجعلت منهم صُنّاع التغيير وحَمَلة الأمل؛ فالمستقبل لا يُبنى بالقرارات وحدها؛ بل بسواعدٍ تؤمن بأنّ كل إنجازٍ صغيرٍ هو لبنةٌ في صرح الوطن الكبير.
ومن هنا، فإنّ الدور المنوط بالشباب العُماني اليوم ليس قليلًا، فعلى الشباب الواعي أن يُجسّد روح النهضة في حياته اليومية: في قراءاته وتعليمه، وجده وعمله، ومبادرته واجتهاده، وأخلاقه وسلوكه، في محيطه ومجتمعه؛ فالشباب هم الامتداد الطبيعي لجذور الأجداد، والرؤية التي ترنو إليها القيادة الحكيمة. وبقدر ما يتحمّل المجتمع مسؤوليته في غرس القيم والوعي، بقدر ما يزدهر الوطن ويعلو شأنه بين الأمم.
إنَّ الدولة البوسعيدية ليست فقط صفحةً مضيئة في التاريخ؛ بل هي مدرسةٌ حيّةٌ في القيادة الراشدة والبناء المتوازن. وعندما يحتفي العُمانيون بيومهم الوطني، فإنّهم يقرأون في وجدانهم تاريخًا مجيدًا صنعه الأجداد، ومستقبلًا واعدًا يصنعه الأبناء؛ فلنُجدّد العهد جميعًا على الولاء لقيادتنا الرشيدة والوفاء لعُماننا الغالية، وأن نصون ما تركه السلف، ونبني للأجيال القادمة ما يليق بتاريخٍ مشرّفٍ وهويةٍ راسخة. فالوطن لا يقوم على الأرض وحدها؛ بل على القلوب التي تحبه، والعقول التي تفكّر فيه، والأيدي التي تعمل لأجله.
وهكذا ستبقى عُمان رمزا للصمود والتقدم، وحصنا للوحدة والاستقرار، ومنارة للأمن والسلام، تلهم الأجيال القادمة للسير بثبات نحو مستقبل أكثر إشراقا وأسمى رفعة.
** مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية المجتمعية
