انتصار بلا منافس

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

في مشهدٍ يتكرّر كل عام، يصعد أحد المسؤولين إلى المنصّة، يبتسم بثقةٍ ويبدأ حديثه بعبارةٍ مألوفة: "لقد حققنا أهدافنا بنسبة تجاوزت 100% وتفوّقنا على التحديات"، يصفّق الحاضرون، وتُعرض على الشاشة صور الإنجازات، فيما تكتمل اللوحة بالابتسامات العريضة التي تملأ القاعة.

لكن ما إن يُطرح السؤال البسيط: "من كان المنافس؟"، حتى يسود الصمت، لأنَّ البطولة لم يكن فيها أحدٌ سواه!

هكذا يُعلن الانتصار قبل أن تبدأ المسابقة، وتُمنح الجوائز قبل أن يُفتح باب التقييم. لقد أبدعت بعض مؤسساتنا في فنّ القياس الذاتي للتميّز؛ حيث يصبح المسؤول هو الحكم واللاعب والمشجع في آنٍ واحد، وكل نتيجةٍ- مهما كانت- تُفسَّر بأنها نجاح ساحق يستحق التصفيق. إنه مشهدٌ يختصر مأساة الإنجاز حين يتحوّل إلى عرضٍ فرديٍّ لا منافس فيه سوى الوهم.

في بيئتنا الإدارية، لا يحتاج بعض المسؤولين إلى منافسين ليعلنوا فوزهم؛ فالمعيار هو الرضا عن الذات، والمقارنة تُعقد مع العام الماضي لا مع الأفضل في الميدان. وهكذا تتحوّل المؤشرات من أدوات قياس إلى شهادات امتياز تُمنح ذاتيًا، ويصبح تحقيقها غايةً بحد ذاته لا وسيلةً للتطوير.

فحين يقول المسؤول: "حققنا جميع مؤشراتنا!" لا يوضّح إنْ كانت تلك المؤشرات تعكس خصوصية الجهة التي يديرها، أم أنها مجرد أرقام عامة وضعتها المؤسسة الأم لجميع وحداتها دون تمييز. وبين المؤشر الحقيقي والمُجمّل تضيع الحقيقة، لأن المهم ليس التطوير بل إثبات النجاح مسبقًا. وهكذا تتحوّل التقارير السنوية إلى مسرحٍ لعرض البطولات، لا مرآةً لمستوى الأداء الفعلي.

تبدأ السنة المالية الجديدة، ولم تُحدَّد بعد الخطط ولا المؤشرات، لكن الاحتفالات بالإنجازات جاهزة، والعروض المرئية أُعدّت مسبقًا. في بعض المؤسسات، يُعلَن الفوز قبل أن تُرفع صافرة البداية، ويُكرَّم الموظفون على جهودٍ لم تُبذل بعد، وتُعلَّق اللافتات التي تقول: "واصلنا التميّز!" وكأن العام الجديد مجرد نسخة مكرّرة من الأعوام السابقة.

لا أحد يسأل: ماذا تغيّر؟ أو ما الجديد في الأهداف؟ بل تُستدعى إنجازات العام الماضي لتُباع مرة أخرى في عبوةٍ جديدة. وهكذا تتحول ثقافة التطوير إلى تسويقٍ للذات، والمنافسة إلى عرضٍ احتفاليٍّ دائم، لا تُقاس فيه الكفاءة بما أُنجز فعلاً، بل بما يُقال إنه أُنجز.

إن رؤية «عُمان 2040» لم تُبنَ على الأرقام التجميلية ولا على التصفيق الذاتي، بل على مبدأ القياس الحقيقي للأثر؛ فالتقدّم في مؤشرات الأداء الوطني لا يتحقق بإعلان الانتصارات؛ بل بتقويم السياسات وتصحيح المسارات. إنها رؤية تؤمن بأن التطوير لا يقاس بالتصريحات، بل بما يُحدثه الأداء من تغييرٍ ملموس في حياة الناس.

المؤسسات التي تكتفي بتكرار إنجازاتها الماضية تُعلّق نفسها في زمنٍ إداريٍّ ثابت، بينما تتقدّم الدول بقياس جودة خدماتها من زاوية المستفيد لا من منصة المسؤول. فالقيمة الحقيقية لأي مؤشر ليست في تحقيقه، بل في قدرته على كشف مواطن الضعف وتحفيز التحسين المستمر.  ومن دون هذا الفهم، ستظل بعض الجهات ترفع شعار التميّز وهي تكرر أخطاءها بهدوءٍ منمّق، وتعيش نشوة الفوز في سباقٍ لم يشارك فيه أحد.

غير أن السؤال الأهم يبقى: من يتحقّق من صدق تلك المؤشرات التي تعلنها الجهات الحكومية؟ فغالبًا ما تصدر المؤشرات عن الجهة نفسها، وهي التي تتحدّث عنها وتحتفي بها، لكن قلّما نرى جهةً محايدةً تراجعها أو تتحقق من مدى عدالتها وموضوعيتها.

وهنا يبرز الدور المحوري للجهات الرقابية، التي يقع على عاتقها تقييم الأداء والتحقق من مصداقية البيانات والمعايير التي بُنيت عليها تلك المؤشرات. والمساءلة ليست تشكيكًا في الجهود؛ بل ضمانٌ لأن يُعبّر النجاح عن حقيقةٍ ملموسة، لا عن تقريرٍ مصاغ بعنايةٍ لغوية. وعندما تعمل أجهزة الرقابة والتدقيق في شراكةٍ شفافة مع المؤسسات التنفيذية، يتحوّل القياس من رقمٍ يُقال إلى قيمةٍ تُثبتها النتائج.

في النهاية، لا يُقاس النجاح بما نرويه عن أنفسنا؛ بل بما يراه الناس في أثرنا. فالإنجاز الحقيقي لا يحتاج إلى إعلان، ولا يُقاس بالتصفيق أو الصور الرسمية، بل بقدرة المؤسسة على أن تغيّر حياة من تخدمهم. وما أجمل أن يأتي يومٌ يصبح فيه الفوز مؤكدًا لأن النتائج تتكلم، لا لأن الخطب تروي الحكاية. إذ إن «الانتصار بلا منافس» ليس مجدًا؛ بل مرآةً تُذكّرنا بأن من يقيس ذاته بذاته، سيبقى يدور حول نفسه مهما ظنّ أنه يتقدّم.

الأكثر قراءة