محمد بن علي البادي
كانت الأسواق العُمانية القديمة أكثر من مجرد دكاكين وأروقة يعلوها الغبار؛ كانت ملامح وطن تروى في وجوه تجاره، ونبضا يتردد في صدى الخطوات على حجارتها العتيقة. هناك، ولدت الأمانة في الموازين، وتربت الكرامة على الأرفف الخشبية، وتبادلت الأيادي عمرها بصدق لا يقاس بالنقود.
لم تكن تلك الأسواق تبيع السلع فحسب؛ بل كانت تبيع الحكايات، وتشتري العزة بثمن الكد والعرق. وكانت – بما فيها من ثقة متبادلة بين الناس – بمثابة بنوك شعبية فطرية؛ يودع فيها الأهالي أموالهم لدى التجار، ويقترض منها المحتاجون دون أوراق أو ضمانات؛ بل بكلمة شرف تغني عن كل توقيع.
اليوم، حين نلتفت إلى أطلال تلك الأسواق، لا نرى جدرانا مهدمة فحسب؛ بل نرى تاريخا يصادر بصمت، وهوية تنتزع من بين أنامل أبنائها الذين شيدوا بها مجد التجارة العُمانية منذ قرون.
كانت الأسواق العُمانية القديمة نبض الحياة في القرى والمدن، ومصدر فخر لكل عُماني يبيع ويشتري بشرف وكرامة. هناك، كان العُماني التاجر والسيد والحارس على رزقه، يعرف زبائنه بالاسم، ويقيس الربح بالرضا لا بالمال. لكن تلك المشاهد التي كانت تروي حكاية الكد والاجتهاد بدأت تتلاشى مع مرور السنين، حتى غدت الأطلال مكانا للذكرى، والأسواق القديمة أثرا بعد عين. لقد أغلقت الأبواب التي كانت تفتح للعُمانيين رزقهم، وهدمت المحال التي حملت أسماءهم، ثم أعيد بناء الأسواق بثوب جديد، لكن روحها القديمة غابت، لأنها لم تعد تدار بأياد عُمانية؛ بل سلمت إلى أجانب جعلوا من الاقتصاد المحلي ميدانا لمصالحهم الخاصة، فغاب التاجر العُماني عن المشهد الذي كان يومًا عنوان حضوره.
لم تكن الأسواق القديمة مجرد أماكن للبيع والشراء؛ بل كانت مدارس للحياة، ومجالس للحكمة، ومواطن لتبادل الخبرة بين التجار. في تلك الأزقة الضيقة المفعمة بروائح اللبان والبن والعطور، تشكل وجدان العُماني التجاري، وتعلم أبجديات الصدق والأمانة في التعامل. كان التاجر العُماني معروفا بدقته في الميزان، ووفائه في العهد، فلا غش ولا احتكار؛ بل تجارةٌ تقوم على البركة والرضا. ومن تلك الأسواق انطلقت قوافل التجارة إلى شرق أفريقيا والهند وفارس، تحمل اسم عُمان أينما وصلت، وتشهد أن أبناءها خلقوا للتجارة بذكاء وفطرة نقية. لقد شكلت تلك الأسواق في زمانها شريانا اقتصاديا نابضا يغذي المدن والقرى، ويمنح المواطن فرصة الكسب الشريف في أرضه دون حاجة إلى الغريب، وكانت رمزا للاكتفاء الذاتي وعنواناً للسيادة الاقتصادية العُمانية.
لم يأت التغيير فجأة؛ بل تسلل بصمت مع تحولات العمران والانفتاح الاقتصادي. حين بدأت الأسواق القديمة تهدم بحجة التطوير، لم ينتبه كثيرون أن الهدم لم يكن في الحجر فحسب؛ بل في الروح والهوية أيضا. أنشئت مراكزٌ تجاريةٌ حديثةٌ تتلألأ أضواؤها، لكنها خلت من الوجوه العُمانية التي كانت تزين السوق القديم بابتسامة الرضا ودفء التعامل. شيئا فشيئا، انسحب التاجر العُماني من الواجهة، ليحل محله الوافد الأجنبي الذي امتلك زمام الأمور، يتحكم في الأسعار، ويتلاعب بمسار السوق كيفما شاء. ومع ضعف الرقابة وغياب الدعم للتاجر المحلي، أصبحت التجارة الوطنية رهينة لجهات خارجية تمتص الأرباح وتحولها خارج البلاد، وبهذا التحول، فقدت الأسواق روحها، وفقد المواطن ثقته بقدرته على المنافسة في بلده.
لإعادة التاجر العُماني إلى قلب الأسواق، لا يكفي الأسف على الماضي؛ بل يجب وضع سياسات واضحة تنصف المواطن وتمنحه فرصا عادلة. يمكن ذلك من خلال إعفاءات ضريبية مؤقتة، وتسهيل إجراءات الترخيص والتخليص الجمركي، وتقديم الدعم الفني والتسويقي، وإتاحة المساحات التجارية في الأسواق الحديثة لأولئك الذين يمتلكون القدرة والرغبة في استثمار مهاراتهم. كما أن تشجيع التكتلات والتعاونيات العُمانية يمكن أن يخلق قوة اقتصادية حقيقية، تحمي المنتجات الوطنية وتضمن دوران العوائد داخل البلاد. ومن شأن ذلك أن يعيد روح السوق القديم، حيث كان التاجر العُماني يقف شامخا في وجه التحديات، محافظا على إرثه التجاري وكرامته المهنية.
إن حماية الاقتصاد الوطني لا تكون بالكلام فحسب؛ بل بالخطوات العملية التي تمنح المواطن الأولوية، وتعيد إليه الثقة بقدرته على المنافسة. فعُماننا غاليةٌ، وأهلها أغلى، ونجاح التاجر العُماني هو نجاحٌ للوطن بأسره.
