دوامة الصمت.. ووجع المُسرَّحين

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

ثلاثية الألم الإنساني: تربيةٌ مربَكة، وأُسَرٌ مضطربة، ونفوسٌ مُنهكة، بينما يتصدّر المشهد أثر ووجهٌ اقتصادي فقط.

في زاويةٍ من البيت، يجلس أبٌ كان بالأمس ينهض قبل الفجر إلى عمله، يعود اليوم ليحصي الأيام في صمتٍ ثقيل. على الطرف الآخر من الطاولة، يراقبه ابنه بنظرةٍ حائرة، لا يفهمها تمامًا، لكنه يشعر أن شيئًا انكسر في صورة القدوة التي اعتادها. لم تكن الصدمة في الراتب المقطوع أو المزايا المفقودة؛ بل في ذلك الإحساس المُوجِع بأنَّ جهدَ سنواتٍ طويلة انتهى بقرارٍ إداريٍّ بارد، لا يرى في الوجوه سوى الأرقام.

تتكرَّر هذه القصة بصيغٍ مختلفة في بيوتٍ كثيرة؛ غير أن أثر التسريح لا يقف عند حدود الراتب أو الحساب البنكي؛ بل يمتد بصمتٍ إلى أعماق الأسرة والتعليم والنفس. وبينما ينشغل الخطاب العام بالأرقام والتقارير والآثار الاقتصادية لتسريح القوى العاملة الوطنية، يبقى الوجع التربوي والأسري والنفسي في الظلّ، كأنه لا يستحق أن يُسمع أو يُروى.

على المستوى التربوي، يُخلخل التسريحُ صورةَ القدوة في وجدان الأبناء. فحين يفقد الأب أو الأم عمله، لا يتلاشى الدخل فحسب؛ بل تتوارى معه رمزيةُ الانضباط والجدوى. يتحوّل الحديث في البيت من أحلامٍ واسعة إلى حساباتٍ ضيّقة، ومن إشراقة الأمل إلى ظلال الحذر؛ وفي زوايا هذا التبدّل الصامت، تبدأ العيون الصغيرة تلتقط ملامح التغيير.

يرى الطفل والده يطرق الأبواب بحثًا عن فرصة، أو يقلب أوراقًا لا تُثمر، فيتسلّل إلى نفسه إحساسٌ مبكر باللاجدوى؛ وكأن المستقبل يُورَّث قلقًا لا طموحًا. وهكذا تصل رسالةٌ صامتة إلى الجيل الجديد مفادها أن العمل لا يُكافأ دائمًا، وأن التفوّق لا يضمن الأمان. إنّها أزمةٌ تربوية تربك مفهوم القدوة، وتُضعف ثقة الأبناء بقيمة الاجتهاد.

وعلى المستوى الأُسري، لا يطرق التسريح باب الفرد وحده؛ بل يدخل البيت كله دون استئذان. تتبدل العلاقات التي كانت تقوم على الطمأنينة، ويغدو الهدوء اليومي مشوبًا بالقلق؛ فالمصاريف الصغيرة تتحول إلى نقاشٍ متوتر، والالتزامات إلى عبءٍ صامتٍ يتكرر كل مساء.

يشعر الأب بالعجز أمام احتياجات أسرته، وتشعر الأم بثقل المسؤولية وهي تحاول التماسك أمام الأبناء. ومع كلّ يومٍ جديد، يتحول الصمت إلى لغةٍ مشتركة في البيت؛ فيتجنب الجميع الحديث عن المال أو المستقبل، خشية جرح الكرامة أكثر من ضيق الحال. تلك الهزّة لا تُقاس بالأرقام، لكنها تُحدث شرخًا خفيًا في دفء العلاقات، وتربك توازن الأدوار داخل الأسرة، وتهزّ الثقة بين أفرادها.

أما على المستوى النفسي، فالأثر أشدّ عمقًا وإن خفيَ عن العيون. فالتسريح لا يُفقد الإنسان وظيفته فحسب، بل يخلخل إحساسه بذاته وبقيمته في المجتمع. يشعر المُسرَّح أن سنوات عطائه اختُزلت في ورقة إنهاء خدمة، وأن خبرته التي كانت تُقدَّر بالأمس صارت اليوم بلا وزنٍ في سوقٍ لا يتّسع للجميع. تتكاثر الأسئلة في داخله: هل قصّرت؟ أم أن الظرف كان أقوى؟ وهل ما قدّمه طوال تلك السنوات كان يستحق هذا الختام البارد؟

ومع مرور الوقت، يتحوّل هذا القلق إلى انسحابٍ صامتٍ من الحياة العامة؛ يتراجع التواصل الاجتماعي، وتبهت الرغبة في المشاركة، ويغدو الصمت ملجأً للهروب من نظرات الشفقة أو أسئلة الفضول. وقد تتفاقم هذه المشاعر لتتحول لدى بعض الأفراد إلى اضطراباتٍ نفسية حقيقية؛ كالقلق المزمن أو الاكتئاب أو الأرق المستمر، ما يستدعي دعمًا مهنيًا ومجتمعيًا يعيد التوازن إلى حياتهم. وهكذا تضعف الدافعية، وتبتعد فرص العودة إلى سوق العمل، ليبدأ فصلٌ جديد من الانكسار الصامت الذي لا تُرصده الإحصاءات، لكنه يترك أثره في الوجدان.

في ضوء ما سبق، يمكن فهم هذا الصمت المتزايد تجاه قضايا المسرَّحين في إطار ما تعرفه دراسات الإعلام بـ"دوامة الصمت"؛ إذ تميل الغالبية إلى كتمان آرائها عندما تشعر أن صوتها يخالف الموجة السائدة أو ما يُروَّج له في الفضاء العام. وحين تُقدَّم صورةٌ عامة تُظهِر رضا المجتمع بالإجراءات المتخذة، يتردّد كثيرون في التعبير عن استيائهم، خوفًا من الوصم أو الاتهام بعدم التفهُّم.

ومع مرور الوقت، يتّسع الصمت وتضيق مساحة الحوار الحقيقي؛ فيغيب صوت المتألمين، ويعلو صوت المروّجين للرضا، فتبدو الصورة العامة مستقرة بينما يغلي تحتها وجعٌ مكتوم لا يجد من يُصغي إليه.

وفي زمن المنصّات الرقمية، تتعقّد الظاهرة أكثر وسط ضجيج الآراء وتدفق المحتوى؛ إذ يسهم بعض المؤثرين والمشاهير في تكريس الصورة ذاتها، عبر تلميع القرارات أو حجب تداعياتها الإنسانية. وهكذا تستمد بعض الجهات الرسمية قوتها من رضا مُصطنعٍ لا يعكس الواقع، بينما تبقى الأغلبية المتضرّرة صامتةً بين الخوف والإحباط والحياء، كأنها تهمس بما لا يجرؤ على البوح.

إنّ ما يواجهه المسرَّحون من العمل ليس أزمةً اقتصادية فحسب؛ بل قضية إنسانية شاملة تمسّ قيم التربية، واستقرار الأسرة، وصحة المجتمع النفسية. ومن الخطأ اختزالها في لغة الأرقام أو نسب التوظيف، لأن الأثر الأعمق يحدث في النفوس التي تحاول الصمود بصمت.

آن الأوان لفتح هذا الملف بصوتٍ وطنيٍّ صادق، يوازن بين عرض التحديات والبحث عن الحلول، ويعيد الثقة بين المجتمع ومؤسساته. فالصمت لا يصنع استقرارًا، والرضا القسري لا يبني ثقة، والشفافية في طرح الحقائق لا تُضعف الدولة، بل تقوّيها.

وحين يجد المواطن منبرًا آمنًا يعبّر فيه عن وجعه دون خوفٍ أو تبرير، تتحول دوامة الصمت إلى دائرة إصغاءٍ وبناء، ويبدأ الإصلاح من حيث يجب أن يبدأ: من الاعتراف بالألم، لا من إخفائه؛ فالأمم لا تُشفى بالتجاهل؛ بل بالصدق مع ذاتها.

الأكثر قراءة